مرحبًا بكم أعزائي المستمعين في حلقة جديدة من بودكاست "اكتشف إيران".
إنها خوزستان؛ المحافظة التي تحمل في طياتها مزيجًا فريدًا من الأعراق والثقافات، حيث تمتزج لغات ولهجات شتى، وتتداخل العادات والتقاليد لتصوغ قصة إنسانية ساحرة، مليئة بالإبداع والموسيقى والضيافة.
معكم في الحلقة الثانية من اكتشف إيران، لنغوص معًا في أعماق هذه الهوية المتنوعة.
ففي الحلقة السابقة تحدثنا عن خوزستان بوصفها أقدم محافظة في إيران وأرضًا للحضارات القديمة، أما اليوم فسنقترب أكثر من أهلها وثقافتهم:
"من البختياريين بتراثهم الغني ولهجتهم العذبة، إلى العرب الكرام المضيافين، وغيرهم من المجموعات العرقية التي جعلت من خوزستان موطنًا لها".
في هذه الحلقة، نشارككم قصص الحياة اليومية، ونستمع إلى موسيقاهم، ونتذوق أطباقهم الشعبية، ونتأمل في ملابسهم التقليدية التي تحكي تاريخًا ضاربًا في الجذور.
كل ذلك لنرسم معًا صورة نابضة بالحياة عن خوزستان…
الأرض التي لا تكتفي بأن تكون جغرافيا، بل تتحول إلى سيمفونية بشرية كاملة.
لطالما كانت محافظة خوزستان موطنًا لمختلف القبائل والعشائر، التي رسمت بخيوطها لوحة فسيفسائية نابضة بالحياة. على هذه الأرض تعايشت ألوان متعددة من الأعراق، لكل منها لهجتها وطقوسها وثقافتها الفرعية الخاصة.
ومن بين هذه المجموعات العرقية نجد العرب والبختياريين واللور والشوشتريين والدزفوليين والبهبهانيين والأتراك القشقائيين، وغيرهم الكثير. ويشكل العرب والبختياريون معًا الشريحة الأكبر من سكان هذه المحافظة.
أما البختياريون، فهم إحدى القبائل اللورية العريقة التي تنتشر في جنوب غرب إيران، خاصة في محافظات خوزستان وجهار محال وبختياري وأصفهان ولرستان. في الماضي، كانت أراضيهم تُعرف مجتمعة باسم أرض بختياري. ويتحدثون اللغة اللورية بلهجتها البختيارية المميزة.
تتألف قبيلة البختياري من فرعين رئيسيين: جهار لانغ و هفت لانغ، وينقسم كل منهما بدوره إلى عشائر وفروع متعددة. ويعود تاريخ هذه التقسيمات إلى القرن السادس عشر، حيث شكّلت آنذاك الأساس التنظيمي للقبيلة، قائمًا على نظام طبقي ونظام ضرائبي خاص بالبختياريين.
لقد تواجد البختياريون في خوزستان والعراق منذ القرون الإسلامية الأولى، وكان لهم حضور بارز في مدن عديدة مثل أهواز، وآبادان، ومسجد سليمان، وهفتكل، وباغ ملك، وأنديكا، ولالي، وصفي آباد، وقلعة خواجة، ودهدز، إلى جانب مدن أخرى من خوزستان.
حيثما سرت في خوزستان، لا بد أن تلمح آثار البختياريين؛ تاريخٌ عريق ينساب في شوارعها وقراها.”. وبالمثل، فإن القبائل العربية في خوزستان عاشت تاريخًا طويلاً ومتجذرًا في هذه الأرض.
قبل الحرب العراقية الإيرانية، كان العرب يتمركزون بشكل رئيسي في مدن شادكان، وسوسنكرد، وهويزه، وخرمشهر، وآبادان، إضافة إلى القرى الممتدة في جنوب غرب خوزستان. لكن ما بعد الحرب، دفع الظروف العصيبة بالكثير منهم للاستقرار في مدن أخرى.. هكذا يُعيد التاريخ رسم الخرائط السكانية.. فالحرب لا تُغيّر الأرض فقط، بل تغيّر مَن يسكنها أيضًا.”
يمكن تقسيم تاريخ المواطنين العرب في خوزستان إلى فترتين بارزتين:
الأولى:
من بداية القرن التاسع الهجري إلى منتصفه، حيث تشابك تاريخ السلالات الحاكمة في إيران مع تاريخ الحكومات الإسلامية.
الثانية:
منذ عام 845 هـ وإلى يومنا هذا، وهي حقبة أثبت فيها عرب إيران انتماءهم الوطني مرارًا وتكرارًا.هنا تبدأ الحكاية، وهنا يستمر الوفاء… عرب خوزستان لم يكونوا مجرد سكان، بل حُماة للهوية الوطنية.
وقد تجلّى هذا الانتماء في مواقف مصيرية عبر التاريخ:
- إفشال المؤامرات العثمانية الانفصالية.
- حماية حدود إيران البرية والبحرية.
- مواجهة الجنود البريطانيين والتصدي لهم.
- الوقوف بوجه الحركات القومية العربية في بدايات الثورة الإسلامية عام 1979.
- وأخيرًا، الدفاع البطولي عن أرض إيران خلال ثماني سنوات من العدوان الذي شنه النظام البعثي العراقي.
تاريخٌ كتبه العرق والدموع… لكنه أيضًا تاريخٌ صنع الكبرياء
من الجدير بالذكر أنه في العصر الحديث، ومع اكتشاف النفط في محافظة خوزستان، دخلت إليها مجموعات عرقية متعددة من محافظات إيرانية أخرى، ولعبت هذه المجموعات المهاجرة دورًا إيجابيًا ومحوريًا في نمو المحافظة وتطورها. فالنفط لم يجلب معه الصناعة فقط، بل فتح الأبواب أمام تنوع بشري وثقافي جديد.
ومع انطلاق صناعة السكك الحديدية والنفط في خوزستان، لم يكن هناك ما يكفي من الكوادر المحلية المتخصصة. لذلك، جرى استقدام خبرات فنية وتقنية من محافظات فارس وأصفهان والمركزي وبوشهر، وقد أسهمت هذه الكفاءات بشكل فعال في ازدهار خوزستان وتطورها الصناعي.. هنا اجتمع العقل مع الثروة… لتتحول خوزستان إلى ورشة عمل كبرى.
حتى مدينة آبادان، التي أصبحت لاحقًا من أهم المراكز النفطية في إيران، استقبلت موجة من العمالة القادمة من الدول العربية المجاورة. وبعد الحرب العالمية الأولى، وصل إليها مهاجرون من الهند وباكستان وحتى مسلمو بورما، ليسهموا جميعًا في بناء صورة جديدة للمجتمع المحلي.
مدينة واحدة… لكن على أرضها اجتمعت ثقافات من الشرق والغرب، لتصنع حكاية فريدة من نوعها.. لا شك أن محافظةً بهذا التنوع العرقي والثقافي لا بد أن تزخر بعادات وتقاليد غنية ومتنوعة. صحيح أن بعض هذه العادات تتشابه مع عادات مناطق أخرى من إيران، لكن ما يميز خوزستان هو تأثير تعدد المجموعات العرقية فيها، الذي أضفى على حياتها اليومية طابعًا فريدًا.
هنا، حيث يلتقي التراث بالاختلاف، تتحول المناسبات إلى لوحات من الألوان والأصوات.
يحتفل أهالي خوزستان بجميع الأعياد الوطنية والدينية، شأنهم شأن بقية الإيرانيين. لكن في مدينتي شوشتر ودزفول، هناك عادة خاصة في آخر جمعة من شهر ذي الحجة، إذ يرتدي الناس ملابس جديدة ويتوجهون إلى أماكن الترفيه، قبل أن يدخلوا أجواء الحداد في شهري محرم وصفر.
إنها لمسة إنسانية دافئة… فرحٌ يسبق الحزن، وبهجة تمهّد لروحانية خاصة
أما المناسبات الدينية، فتأخذ في خوزستان طابعًا مميزًا. ففي شهر رمضان، تبلغ الزيارات بين الأهل والأصدقاء ذروتها، وبعد الإفطار يمتلئ المشهد بجلسات العائلة واللقاءات الودية. كما يشتهر أهل خوزستان بعادة رمضانية مميزة هي القرقيعان، حيث يجتمع الأطفال في منتصف الشهر الفضيل، ينشدون الأغاني، ويجوبون الشوارع يطرقون الأبواب، ليحصلوا على الهدايا والحلوى من الجيران. وقد سُجِّل القرقيعان رسميًا كتراث ثقافي للعرب الإيرانيين.
لحظة يختلط فيها صوت الطفولة ببهجة رمضان، لتبقى محفورة في ذاكرة كل من عاشه..
إضافة إلى ذلك، يبدع أهالي خوزستان في إعداد أطباقهم المحلية الخاصة في رمضان، وتجهيز موائد إفطار عامرة بمختلف أصناف الحلويات والمأكولات الشهية.
فالمائدة هنا ليست مجرد طعام… إنها تعبير عن كرم وضيافة، وعن حب للحياة في أجمل صوره
يحتفل أهالي خوزستان أيضًا بأحد أقدم وأهم الأعياد في إيران والمنطقة الثقافية المحيطة بها، ألا وهو عيد النوروز. وقبل أيام قليلة من قدومه، تنشغل الأيادي بتحضير كعكات خاصة مصنوعة من الدقيق والزيت والكمون والباديان، فتنتشر رائحة البهجة في كل بيت.
النوروز هنا ليس مجرد عيد… إنه ولادة جديدة للحياة، تبدأ من أبسط تفاصيلها: قطعة حلوى تفوح برائحة الذاكرة.. ومن الطقوس اللافتة في خوزستان إشعال النار في آخر ليلة أربعاء من السنة الشمسية، فيما يُعرف بـ جهار شنبه سوري، وهو طقس يرمز لعبور النور فوق الظلام، والتخلص من الهموم.
كما يجهّز الأهالي مائدة هفت سين الشهيرة، ويرتدون الملابس الجديدة، ويستقبلون النوروز الكبير بفرحٍ يشبه الربيع. وهذه الطقوس، على تنوعها، شائعة في خوزستان كما في مختلف أنحاء إيران.. ألسنة اللهب، أصوات الضحكات، وألوان المائدة… كلها تنصهر في مشهد واحد: مشهد الحياة وهي تحتفل بنفسها.
وفي خوزستان يُحتفل أيضًا بيوم الطبيعة، الموافق الثالث عشر من شهر فروردين، لكن بطريقة مميزة تمتد على مدار يومين كاملين، حيث يخرج الناس إلى أحضان الطبيعة ليجددوا عهدهم مع الأرض والخضرة.
إنه لقاء مع الطبيعة… حيث تتنفس المدن من جديد
أما تنوع الأعراق في خوزستان فقد انعكس على تنوع لغاتها ولهجاتها. وأقدم لغة عرفها سكان هذه الأرض هي اللغة العيلامية أو الشوشية، التي اندثرت بحسب الاكتشافات التاريخية في حدود عام 3000 قبل الميلاد. وبعدها انتشرت في المنطقة اللغات السومرية والسامية، لتترك أثرها على لسان الناس وثقافتهم.
من لغة إلى أخرى، ومن لهجة إلى ثانية، ظل صوت خوزستان يتجدد، لكنه لم يفقد هويته أبدًا
كانت اللغة الخوزية ذات أهمية كبيرة وانتشار واسع في العصر الأخميني، إذ كانت اللغة الرسمية لشعب خوزستان حتى وصول الإسلام إلى إيران. وقد أشار إليها الجغرافي الشهير المقدسي في القرن الرابع الهجري.
لغة حملت بين حروفها ذاكرة أمة… واندثرت يومًا، لكنها بقيت أثرًا خالدًا في سجل التاريخ
أما اليوم، فيتحدث سكان خوزستان بلهجات محلية متعددة مثل الدزفولية، والشوشترية، والبهبهانية، والرومزية، والآبادانية، والعربية. وإلى جانب هذه اللهجات تنتشر الفارسية والعربية والتركية والكردية واللورية. ففي مدينة أهواز تُسمع الفارسية إلى جانب العربية، بينما يتحدث أهالي أنديمشك بالفارسية، وأهالي خرمشهر وآبادان بالعربية مع إتقان الفارسية.
أما دزفول فيغلب عليها الفارسية اللورية، وبهبهان بالفارسية الوسطى والفارسية اللورية، فيما يتحدث سكان شايغان بالعربية، وسكان شوشتر بالفارسية الدَرية والمحلية.
هنا، كل مدينة لحن، وكل لهجة نغمة، لتتشكل معًا سيمفونية لغوية لا نظير لها
ولا تكتمل صورة خوزستان من دون الحديث عن موسيقاها، التي تُعدّ من أبرز سمات قومياتها المختلفة. ففي المناطق العربية تتأثر الألحان بالمقامات العربية، وتشبه بشكل كبير موسيقى جنوب العراق. أما بين البختياريين، فقد احتلت الموسيقى مكانة خاصة منذ زمن بعيد، يرافق بها الموسيقيون المحليون طقوس الفرح والحداد على حد سواء. وتتميز الموسيقى البختيارية ببساطتها، وتشترك مع الموسيقى المحلية الأخرى في الألحان البسيطة واستخدام الآلات الإيرانية، لكنها تختلف بلهجتها وأسلوب أدائها.
موسيقى تبكي مع الحزن، وتفرح مع الفرح، وكأنها مرآة صادقة لمشاعر الناس
وللمنشد هنا دور محوري، فبعد المقدمة الموسيقية، يصبح صوته العذب العلامة الفارقة التي تكمل وتزين التأليف الموسيقي. وتستخدم في الموسيقى البختيارية آلات محلية مثل الدهل، والسرنا، والناي شيت، والناي هفت بند، والكمانجة. ومع دخول آلة التار، اكتسبت موسيقى هذه المنطقة لونًا جديدًا وازدهارًا مميزًا. بل إن وجود كبار الموسيقيين من خوزستان في المشهد الفني بطهران أدى إلى ظهور فرق موسيقية قدّمت مقطوعات جديدة وحديثة.
ومن أبرز الآلات الشائعة في هذه المنطقة أيضًا: التار، السرنا، الدهل، الناي، والدف. وبفضل القرب الجغرافي والثقافي من المناطق المجاورة، نشأت مقامات مشتركة مثل المقام الشوشتري، والمقام الدزفولي، والمقام البختياري، لتشكل جسرًا موسيقيًا يربط الثقافات معًا.
هنا، لا تعرف الموسيقى الحدود… فكل مقام حكاية، وكل لحن جسر يربط الناس ببعضهم عبر الزمن.
وإن تجاوزنا الموسيقى التي تُغذّي الروح، وانتقلنا إلى غذاء الجسد، سنجد أن محافظة خوزستان تتميز أيضًا بتنوع مذهل في هذا المجال. فالحياة لا تقوم إلا على ثلاثية أساسية: الماء، والهواء، والغذاء. وبما أن الغذاء هو سرّ البقاء، فقد ابتكر كل شعب وكل منطقة أطباقًا خاصة بها تعكس طبيعتها ومواردها ومناخها.
فالطعام ليس مجرد حاجة، بل هو هوية، وذاكرة، ونافذة يطلّ منها السياح على ثقافات الشعوب
ورغم تنوع الأطباق الإيرانية عامة، إلا أن المطبخ المحلي في خوزستان يحتل مكانة خاصة. فهو يعتمد على مكونات بسيطة متوفرة، لكنه في الوقت نفسه يُراعي طبيعة المناخ وظروف الحياة. ومن العادات الغذائية المميزة لأهالي خوزستان وجود أطعمة خاصة لكل فصل من فصول السنة: ففي الصيف، يُقدَّم للضيوف شراب الكرز، والسكنجبين، والزعفران، أما في الشتاء فيتصدّر المشهد التمر ممزوجًا بالطحينة.
مشروبات باردة تنعش أيام الحر… وأطعمة دافئة تضيء ليالي البرد.
كما يستهلك سكان هذه المحافظة كميات وفيرة من منتجات الألبان، وتحتل بعض الأطباق التقليدية مكانة راسخة في موائدهم. ومن أبرز هذه الأطباق الرنكينك، وهو طعام مغذٍ ولذيذ يُقدَّم على الغداء أو العشاء، ويُعد شاهدًا حيًا على بساطة المكونات وغنى الطعم.
في كل لقمة من الرنكينك… قصة من التراث، ودفء من الماضي، وبهجة تُغني الحاضر
الطبق الخوزستاني هو مزيج ساحر من النكهات الغنية، والتوابل المعطرة، والمكونات الطازجة المستوحاة من ثقافة هذه الأرض وطبيعتها. ومن بين أشهر أطباقها يبرز طبق قلية ماهي، ذلك الطبق الذي يجمع بين الطعم اللاذع والحامض والشهي في آن واحد.
قلية ماهي… ليس مجرد طعام، بل نكهة تحكي قصة الجنوب
يحظى هذا الطبق بشعبية واسعة في مدن آبادان وخرمشهر وأهواز، ويُحضَّر من السمك الطازج، والتمر الهندي، وأعشاب معطّرة مثل الكزبرة والحلبة، مع إضافة التوابل الجنوبية المميزة. ورغم بساطة مكوناته، فإن مذاقه الفريد جعله رمزًا من رموز المطبخ الإيراني الجنوبي. يُقدَّم غالبًا مع الأرز، ويمتزج فيه الطعم مع الرائحة ليمنح تجربة لا تُنسى.
حين تمتزج رائحة التمر الهندي مع عبق الأعشاب، تعرف أنك أمام طبق لا يُشبه غيره.
أما فلافل آبادان، فهو حكاية أخرى من حكايات المطبخ الخوزستاني، وأحد أشهر مأكولات الشوارع في المحافظة. يتمتع بشهرة واسعة تتجاوز حدود خوزستان إلى كل إيران. يُحضَّر الفلافل من الحمص المنقوع، والثوم، والبصل، والتوابل الجنوبية، ويُقدَّم على شكل كرات مقلية ذهبية اللون. وفي آبادان وخرمشهر، يُقدَّم عادة مع الصمون، والمخللات، والخيار المخلل، والصلصة الجنوبية الشهيرة.
رائحة الفلافل على ناصية شارع في آبادان… كفيلة بأن تجعل المارة ينجذبون إليها بلا مقاومة
يحظى الفلافل بشعبية كبيرة بين السياح والسكان المحليين على حد سواء، بفضل مذاقه اللذيذ، وسعره المناسب، وسهولة تحضيره، وتقديمه. حتى أصبح من المألوف أن يُقال: نادراً ما يزور أحد آبادان ويغادرها دون أن يتذوق حبة فلافل واحدة على الأقل.
إنها وجبة الشارع التي تحولت إلى جزء من الهوية… لقمة سريعة لكنها عميقة الدلالة.
لكل مجتمع أزياؤه الخاصة التي تحكي بلغة صامتة تاريخ ثقافته وهويته. فالملابس ليست مجرد أقمشة، بل هي وسيلة تعبّر عن جماليات كل جماعة، وتكشف اختلافاتها وتمايزها.
الألوان هنا ليست مجرد زينة… بل رموز تُروى بها حكايات الشعوب.
ومن بين الجماعات العرقية التي تعيش في خوزستان، تتميز ملابس البختياريين بخصوصية لافتة. فالنساء البختياريات يخطن ملابسهن التقليدية بأقمشة ملونة وجذابة، ولكل لون ونقش معنى محدد. ومن أبرز مكونات هذه الملابس وشاح يُسمى “لچَك”، يُصنع غالبًا من أقمشة بيضاء، وتُزين حوافه بشرائط يُخاط عليها خرز ملوّن يُسمى “بونا”، تتدلى منه عملات معدنية وأحجار صناعية لامعة تشكّل قلادة بديعة. وتُرتدى هذه الأزياء خصوصًا في المناسبات السعيدة والاحتفالات، لتعكس جزءًا من الهوية النابضة بالحياة.
في كل خرزة لامعة… وفي كل نقشٍ متألق، رسالة صامتة تقول: نحن هنا، وهويتنا باقية.
أما ملابس الرجال البختياريين، فهي بدورها فريدة. فالقبعات المتنوعة التي يضعونها على رؤوسهم تحمل دلالات اجتماعية وثقافية واضحة: كبار السن يضعون قبعاتهم مائلة قليلًا نحو مقدمة الرأس، بينما يضعها الشباب في منتصف الرأس موجهة إلى الخلف.
حتى طريقة وضع القبعة… تحكي عن العمر والمكانة والهوية
وللعرب في خوزستان أزياؤهم المميزة أيضًا. فالرجال يرتدون الدشداشة، وغالبًا ما تكون بيضاء اللون، ويضعون الكوفية لحماية الرأس والوجه من الشمس والغبار، ويثبتونها بالعقال. أما النساء العربيات فيرتدين العباءة، ويغطين رؤوسهن بوشاح أسود طويل يُعرف بـ “الفوطة”، ويُصنع من الكتان أو القطن أو الحرير.
وهكذا، يكتب العرب في خوزستان هويتهم بخيوط بسيطة، لكنها عميقة الدلالة.
إلى جانب آداب اللباس، هناك آداب وثقافة أخرى لدى الخوزستانيين لا تقل عمقًا وروعة… إنها طقوس شرب القهوة أو “الدلّة”. لهذه العادة مكانة كبيرة لدى عرب أهواز، حتى أنها سُجِّلت في التراث الوطني الإيراني. والرمز الأبرز لهذه الطقوس هو “دلّة الخاوة”، أي دلّة القهوة العربية، التي يستخدمها عرب أهواز في الحفلات وحتى في المؤتمرات الدولية.
القهوة هنا ليست مشروبًا فقط… بل رمزًا للكرم والهوية.
هذا الإناء المخصص لتحضير القهوة أصبح رمزًا ثقافيًا يوضع حتى في إحدى الساحات الرئيسية بمدينة أهواز. ولكل مرحلة من مراحل إعداد القهوة عاداتها الخاصة، كما هو الحال في سائر البلدان العربية. فعند استقبال الضيف، لا بد أن يمسك فنجان القهوة بيده اليمنى، وإلا عُدّ ذلك قلة احترام. وبعد أن يشرب الضيف قهوته، يُحرّك الفنجان بيده إشارة إلى الاكتفاء.
فنجان صغير… لكنه يحمل لغة كاملة من الإشارات والرموز.
ولا تقف خوزستان عند طقوس الضيافة فقط، بل تُعرف أيضًا بتذكاراتها المميزة، التي تُجسّد تاريخها وطبيعتها وفنّ أهلها. من أهمها التمر، الذي يُنتج بكثرة في شوشتر ودزفول وآبادان وخرمشهر، وتشتهر به عالميًا لما يتمتع به من مذاق فريد وجودة عالية. وإلى جانب تناوله يوميًا، يُستخدم في تحضير حلويات محلية مثل الكعك والحلاوة.
تمرة من خوزستان… ليست مجرد ثمرة، بل قطعة من شمس الجنوب
ومن الحرف اليدوية الفريدة هنا الكبو؛ سلال جميلة تُنسج من سعف النخيل وأحيانًا من خيوط ملونة، خصوصًا في مدينة دزفول. وهي ليست مجرد حرفة، بل فن أنثوي يعكس جمال النساء وإبداعهن، وتُستخدم هذه السلال كحاويات عملية أو كديكور منزلي.
سعفة نخيل تتحول بخيوط أنامل النساء إلى تحفة تزيّن البيوت.
أما من التذكارات اللذيذة التي لا تُنسى، فهناك “أرده ي شوشتر” أو الحلاوة الطحينية، وهي من التقاليد الغذائية الأصيلة في خوزستان. تُحضّر من بذور السمسم الطازجة، وتتميز بطعمها المنعش، وتُقدَّم كفطور مغذٍ أو وجبة خفيفة صحية. وتُعد مدينة شوشتر، بتاريخها العريق وهندستها المذهلة، مركزًا لإنتاج هذه الحلاوة.
بذور سمسم تتحول في شوشتر إلى حلاوة تُغذّي الجسد… وتُبهج الروح.
كانت هذه جولة سريعة بين أزقة الثقافة ومفردات الحياة اليومية في خوزستان… محافظة كل ركن فيها يحكي قصة، وكل تفاصيلها تنبض بالتاريخ والفن والتقاليد الأصيلة.
لكن ما كشفناه اليوم ليس سوى غيض من فيض؛ فما زالت هناك حكايات تنتظر أن تُروى، ومعالم طبيعية وهندسية مدهشة تخفيها هذه الأرض، إلى جانب إمكانات اقتصادية جعلت من خوزستان القلب النابض لجنوب إيران.
خوزستان…
أرض لا تُشبعها زيارة ولا تكفيها حلقة واحدة
انتظرونا…
فالقادم أجمل