موضوع البرنامج:
شرح فقرة: "يا ذا المن والعطاء..."
لا نزال نحدثك عن الادعية المباركة، ومنها: دعاء (الجوشن الكبير)، حيث حدثناك عن المقاطع الاولى منه في لقاءات سابقة، وانتهينا من ذلك الى مقطع ورد فيه: (يا ذا المجد والثناء) الى ان يقول: (يا ذا المن والعطاء، يا ذا الفصل والقضاء)، وهذا ما نبدأ بتوضيحه الآن، ونتجه الى عبارة: (يا ذا المن والعطاء).
سبق ان اوضحنا مرات كثيرة ان الدعاء الذي نتحدث عنه يتضمن عبارات ثنائية، اي: مزدوجة من حيث الصفات او الاسماء او المظاهر المتصلة بعظمة الله تعالى، وقلنا: ان العبارة المزدوجة تعني وجود القواسم المشتركة بين العبارتين او الصفتين: كالادلة المشتركة مثلاً بين الجود والكرم او العفو والرضاء.
او الدلالة المتجانسة بين العبارتين مثل: (يا ذا العهد والوفاء) ولكن في نفس الوقت تتضمن العبارتين دلالتين مستقلتين بحيث تتباين العبارتان ايضاً، وهذا ما نلحظه في عبارة: (يا ذا المن والعطاء)، حيث تتجانس العبارتان من جانب، وتختلفان من جانب آخر. كيف ذلك؟
(المنّ) هو: انعام الله تعالى على العبد بما يتفضل عليه من النعم التي لا تحصى، واما (العطاء) فهو: النعمة ذاتها، اي: ان النعمة شيء والمنّ شيء آخر.
النعمة هي: عطاء الله تعالى، واما المنّ فهو عطاؤه مع تذكيره تعالى بهذا العطاء من اجل توعيته اي: ان يعي ويعرف العبد عظمة الله تعالى.
طبيعياً: ينبغي ان نفرق بين (المنّ) من الله تعالى على عبده، وبين (المنّ) البشري الذي يعني: ان يذكر صاحب العطاء لأخيه المؤمن: فضله عليه كأن يقول له: لقد اعطيتك كذا وكذا من أجل اذلاله، حيث ان المنّ البشري مذموم كما هو واضح، وقد قال الله تعالى: «قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى».
وقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ»، وسرّ ذلك، ان العبد لا يملك لنفسه ضَرًّا وَلا نَفْعًا، وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا، لان الله تعالى هو الواهب لعبده مختلف قواه وامكاناته.
والآن بغض النظر عما تقدم يعنينا ان نلقي الانارة على النقاط المشتركة او المتجانسة بين (المنّ) و (العطاء) من الله تعالى على عبده والنقاط المختلفة بين الصفتين: العطاء والمنّ فماذا نستلهم منهما؟
قلنا: ان (المنّ) هو ما ينعم به الله تعالى على عبده مقروناً بتذكيره ذلك حتى يعي العبد عظمة الله تعالى ورحمته بعباده واما(العطاء) فهو ما يمنحه تعالى مطلقاً من الخير لعبده، وحينئذ يكون التجانس بين العطاء والمنّ هو: ان الله تعالى يتفضل على عبده بالخيرات، ويجعلها واعياً بها.
واما النقاط المتفاوتة بين المنّ والعطاء فهي: ان العطاء هو: الانعام على العبد مطلقاً، بينما المنّ اشمل حيث يتضمن العطاءوالتذكير برحمة الله تعالى فيما لاحدود لرحمته.
بعد ذلك تواجهنا عبارتان او صفتان متجانستان ايضاً، وايضاً متفاوتتان، وهما: (يا ذا الفصل والقضاء)، فماذا نستلهم منهما؟
هاتان العبارتان او الصفتان تشتركان فيما بينهما من حيث انهما يرتبطان بحكم الله تعالى حيال عباده في تحديد مصائرهم وقضاياهم، ولكنهما ـ كما قلنا ـ يشتركان من الدلالة من جانب، ويختلفان من جانب آخر.
اما الاشتراك فهو (حكم الله تعالى) مطلقاً، واما الاختلاف فهو: انك ـ في التجربة البشرية ـ إذا حكمت بين طرفين بحيث اصدرت الحكم لصالح احدهما مثلاً، تكون بذلك قد مارست (القضاء)، ولكنك اذا اوضحت قضايا كل منهما بغض النظر عن اصادر الحكم وعدمه: تكون بذلك قد مارست (الفصل) اي: اوضحت خطوط الموقف بين هذا الشخص او ذاك والامر بالنسبة الى الله تعالى كذلك، حيث انه تعالى (يفصل) بين المذاهب التي اختلف الناس فيها: يوم القيامة فيتبين الحق من الباطل: كالفصل مثلاً بين المسلمين وسواهم، واما تحديد المصائر الى الجنة او النار مثلاً فهو ما ينسحب على مصطلح (القضاء): كما هو واضح.
اذن اتضح لنا ما تحمله صفتا (الفصل والقضاء) في عبارة: (يا ذا الفصل والقضاء)، سائلين الله تعالى ان يلهمنا مبادئ الطاعة، التصاعد بها الى النحو المطلوب.