بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله على جميع نعمه وآلائه، وأزكى الصلاة والسلام على سيّد رسله وأنبيائه، المصطفى خيرته وعلى آله وأوصيائه، السلام عليكم إخوتنا الأعزة المؤمنين ورحمة الله وبركاته، كان من علائم معرفة أمير المؤمنين علي عليه السلام بالقرآن، وغيرته عليه، أن نهض بعد رحيل رسول الله صلى الله عليه وآله بجمعه وترتيبه كما أمر النبيّ صلى الله عليه وآله، حتى اعترف بذلك جهابذة المؤلفين والمحققين والمؤرّخين، منهم ابن أبي الحديد المعتزليّ، الذي كتب في مقدّمة كتابه الشهير (شرح نهج البلاغة) يقول: ثمّ هو عليه السلام أوّل من جمع القرآن، وأهل الحديث يقولون تشاغل بجمع القرآن، وهذا يدل على أنه أوّل من جمع القرآن، لأنه لو كان مجموعاً لما احتاج إلى أن يتشاغل بجمعه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله. أمّا السيّد شرف الدين الموسويّ، فقد كتب في كتابه (مؤلفو الشيعة في صدر الإسلام) يقول: الإجماع قائم على أن ليس للمسلمين في العصر الأوّل تأليف، وأوّل شيء سجّله أمير المؤمنين عليه السلام هو كتاب الله العزيز، فإنّه بعد فراغه من أمر النبيّ صلى الله عليه وآله آلى على نفسه أن لا يرتدي إلاّ للصلاة، أو يجمع القرآن، فجمعه مرتباً على حسب ترتيبه في النزول، وأشار إلى عامّه وخاصه، ومطلقه ومقيّده، ومجمله ومبينه، ومحكمه ومتشابهه، وناسخه ومنسوخه، ورخصه وعزائمه، وآدابه وسننه. ونبّه على أسباب النزول في آياته البينات، وأوضح ما عساه يشكل من بعض الجهات. وكان ابن سيرين يقول: لو أصبت ذلك الكتاب كان فيه العلم.
إخوتنا الأفاضل، نقرأ في أوّل آية من سورة النساء، قوله تبارك وتعالى: "وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ"، فنطالع في تفسيره أن المعنى، إتقوا مخالفة أوامر الله الذي له من العظمة والجلال والعزة على حدّ تتساءلون به، واتقوا قطيعة الأرحام وظلمها، والآية المباركة تدلّ على عظمة صلة الأرحام وحقها ومقامها. أمّا في بيان الآية على ضوء البحث الروائيّ، فإنّ المقصود بكلمة الأرحام التي يسأل الناس عنها هم: رسول الله وأهل بيته صلوات الله عليه وعليهم وذوو أرحامه، وقد روى الحاكم الحسكانيّ الحنفيّ في (شواهد التنزيل) أنّ ابن عباس قال في ظلّ هذه الآية الشريفة: نزلت في رسول الله وأهل بيته وذوي أرحامه، وذلك أنّ كلّ سبب ونسب منقطعٌ يوم القيامة إلاّ ما كان من سببه ونسبه صلى الله عليه وآله.
أجل أيّها الإخوة الأحبّة، وهذا المعنى من باب بيان المصداق الأكمل والفرد الأتمّ، وإلا فأرحام كلّ شخص مسؤولٌ عنها يوم القيامة، لحرمة قطع الرّحم، بل لوجوب صلتها كما قيل أيضاً. لكنّ الأولى من ذلك صلة الرحم مع النبيّ وآله صلوات الله عليه وعليهم، وغداً سيسأل الناس عنها، وقد قال تعالى بعد ذلك: "إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً" يعني: كان عليكم حفيظا، قيل: العبارة الشريفة هذه هي في موضع التعليل للأمر بالتقوى، وهي تتضمّن التهديد والتوعيد لمن تمرّد وعصى وخالف. والرّقيب: هو المتفوّق المطّلع على الأعمال عن كثب وعناية، فيكون المعنى: إتقوا الله الذي تعظمونه وتهيبونه، فإنه القادر الذي لا يخفى عليه شيءٌ ولا يفوته، وسيحاسبكم ويجازيكم في أمر الأرحام.
ونبقى مع أمير المؤمنين عليّ في القرآن، إذ نزلت فيه عشرات آيات الله، فهو من آل الرسول وأهل بيته، بل هو من أخصّهم، بل هو نفس رسول الله صلى الله عليه وآله، كما بيّنا في آية المباهلة من قوله تعالى: "أَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ" ، وهو سلام الله عليه المخصوص في قوله تعالى أيضاً والمعنيّ مع أهل بيته: "أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ" (النساء: ٥٤)، كتب الحبريّ في تفسيره: نزلت هذه الآية في رسول الله صلى الله عليه وآله، وفي عليّ عليه السلام بما أعطاه الله من الفضل. هذا، فيما أخرج ابن المغازليّ الشافعيّ في (مناقب عليّ بن ابي طالب)، والسيوطيّ في (الدّر المنثور)، وابن الصبّان في (إسعاف الراغبين)، وغيرهم كثير، عن محمد بن عليّ الباقر عليه السلام أنه قال في ظلّ هذه الآية الكريمة: (نحن الناس والله) وعن الإمام أبي الحسن الكاظم عليه السلام قال: (نحن المحسودون)، كذا عن الإمام الصادق عليه السلام: نحن والله الناس المحسودون. وعن الإمام الباقر عليه السلام: المراد بالفضل فيه أي في قوله تعالى: "عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ" : النبوّة، وفي عليّ الإمامة. وفي (الدّر الثمين) كتب الحافظ البرسيّ: ثمّ وبخ الله أعداءه الذين حسدوه على ما فضل الله عليه، وقالوا: لا تجتمع النبوّة والملك في بيت واحد، كما روى السيد ابن طاووس في كتابه (اليقين)، والطبريّ في تاريخه، فكذبهم الله وقال: "فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكاً عَظِيماً" ، قال الإمام الباقر عليه السلام: فهم الحكماء من الأنبياء من الصفوة، وأمّا الملك العظيم، فهم الأئمة الهداة من الصفوة.
أجل، فكان من فضل الله تعالى على رسول الله أن آتاه النبوّة، وعلى أمير المؤمنين أن آتاه الإمامة، كما روى الحضرميّ في (رشفة الصادي). وقد روى الحاكم الحسكاني في (شواهد التنزيل) أنّ خزيمة نظر يوماً إلى عليّ، فقال له عليّ عليه السلام: أما ترى كيف أُحْسَدُ على فضل الله، بموضعي من رسول الله، وما رزقنيه الله من العلم؟! فقال خزيمة:
رأوا نعمة لله ليست عليهم
عليك وفضلاً بارعاً لا تنازعه
من الدّين والدنيا جميعاً لك المنى
وفوق المنى، أخلاقه وطبايعه
فعضوا من الغيظ الطويل أكفّهم
عليك، ومن لم يرض فالله خادعه