بسم الله الرحمن الرحيم .... الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة والسلام على الرسول الهادي الأمين، وعلى آله الهداة الميامين.
ايها الإخوة الأعزة الأكارم... السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
لعلّ من أكثر الآيات التي أجمع المفسّرون، يوافقهم المحدّثون، والرواة والمؤرّخون، وأصحاب السّير والرجاليّون.. على أنها نازلة في أهل البيت محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين، صلوات الله عليهم أجمعين، منها قوله تبارك وتعالى في الآية المعروفة المسمّاة بـ (آية المباهلة): "فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ"(وهي الآية الحادية والستوّن من السورة المباركة آل عمران).
قال المفسّرون: ((أبناءنا)) أي الذين ولدوا منا، وقد طبقه النبيّ (صلى الله عليه وآله) على الحسن والحسين عليهما السلام. قال أبو بكر الفخر الرازي: هذه الآية دالة على أن الحسن والحسين كانا ابني رسول الله، إذ وعد أن يدعو أبناءه فدعاهما، فوجب أن يكونا ابنيه. ((نساءنا)) ويشمل المرأة التي تنسب إلى الشخص بسبب، أو نسب، كالزوجة والأمّ والأخت والبنت، وقد ورد استعمال ذلك في القرآن في جميع الموارد، أما في آية المباهلة فأريد به البنت، إذ لم يحضر إلا فاطمة الزهراء عليها السلام من البيت النبويّ الشريف.
أمّا ((أنفسنا)) فيقصد فيما يقصد بهذه الكلمة الذين يجسدون الذات في معنى التمثل الحيّ لكلّ ما في رسول الله صلى الله عليه وآله من صفات روحيّة وخلقية وعمليّة، وقد طبق النبيّ صلى الله عليه وآله هذا العنوان المهيب على ابن عمه وحبيبه عليّ بن أبي طالب عليه السلام، إذ لم يدع أحداً من الرجال غير عليّ، ولا يصحّ أن يدعو نفسه بنفسه، وفي هذا دلالة بينة على أن علياً سلام الله عليه هو نفس الرسول صلى الله عليه وآله.
*******
هذا التفسير الذي تقدّمنا به حديثنا –أيها الاخوة الأفاضل- حول آية المباهلة يحتاج إلى أمرين: الأوّل: معرفة مناسبة الآية وسبب نزولها، والثاني: الإطلاع على تفاسير العلماء وآرائهم وبياناتهم، وحتى دلالاتهم حول آية المباهلة الشريفة.
أمّا المناسبة، فيذكر المفسرون، على نحو الإجمال مرّة والتفصيل أخرى، هذه الواقعة، ننقلها عن الزمخشري من تفسيره المعروف (الكشاف عن حقائق التأويل) حيث روى أن رسول الله صلى الله عليه وآله كان له احتجاجٌ مع نصارى نجران وهم قد أتوه إلى مسجده، فبلغ الأمر إلى المباهلة، وهي الملاعنة والدعاء على الكاذب باللعن الإلهيّ، فتخالف النصارى بينهم فقالوا للعاقب: يا عبد المسيح ما ترى؟ قال: والله لقد عرفتم يا معشر النصارى أن محمّداً نبيّ مرسل، وقد جاءكم بالفصل من أمر صاحبكم، أي عيسى عليه السلام، والله ما باهل قوم نبياً قطّ فعاش كبيرهم، ولا نبت صغيرهم.. فأتى رسول الله وقد غدا محتضناً الحسين، آخذاً بيد الحسن، وفاطمة تمشي خلفه وعليّ خلفها، وهو صلى الله عليه وآله يقول لهم: إذا أنا دعوت فأبنوا.
فلمّا رآهم أسقف نجران هابهم فقال: يا معشر النصارى! إني لأرى وجوهاً لو شاء الله أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله بها! فلا تباهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصرانيّ إلى يوم القيامة. فقال لرسول الله: يا أبا القاسم، رأينا أن لا نباهلك، وأن نقرّك على دينك ونثبت على ديننا.. فصالحهم وقال: ((والذي نفسي بيده، إنّ الهلاك قد تدلّى على أهل نجران، ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير، ولاضطرم عليهم الوادي ناراً، ولاستأصل الله نجران وأهله.. ولما حال الحول على النصارى حتى يهلكوا!)).
*******
ولعل قائلاً –إخوتنا الأحبّة- يقول: ربّما روى قصّة المباهلة نفرٌ قليلٌ لا يعتدّ بنقلهم، أو تناقلتها روايات غريبة شذت في كتب المسلمين.. والجواب على ذلك ان عيون المصادر الإسلاميّة وموثوقاتها ومشهوراتها قد روت قصّة المباهلة بتسالم وتواتر وإجماع، وبطرق عديدة وافرة، على أن رسول الله صلى الله عليه وآله قد باهل بعليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم أفضل سلام الله وصلواته، وأنّ آية المباهلة نزلت في تلك الواقعة الخطيرة، فتعيّن أنّ أبناءنا هم الحسنان، ونسائنا هي فاطمة الزهراء، وأنفسنا هو عليّ بن أبي طالب على رسول الله وعليهم صلوات الله وسلامه. كما جاء ذلك في: فتح القدير للشوكاني، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير، وجامع البيان للطبريّ، والنور المشتعل للحافظ أبي نعيم الأصفهانيّ، وشواهد التنزيل للحسكانيّ الحنفيّ، عن ابن عبّاس مرة، وعن جابر بن عبدالله مرة، بأسانيد موثقة متكاثرة، وطرق صحيحة متواترة، يستشفّ منها الإجماع على ذلك، وشذوذ من ينكره أو يخالفه. يؤكّده الثعلبيّ في تفسيره، وابن المغازليّ الشافعيّ في (مناقب عليّ بن أبي طالب)، والحبريّ في تفسيره، والحموينيّ الجوينيّ الشافعيّ في (فرائد السّمطين في فضائل المرتضى والبتول والسّبطين)، والفخر الرازيّ في (التفسير الكبير)، وسبق القول منا في الزمخشريّ، حيث أورد الرواية في تفسيره (الكشاف)، وكان له استدلالٌ نابهٌ إذ قال: لا دليل أقوى من هذا على فضل أصحاب الكساء، لأنه لما نزلت الآية (آية المباهلة) دعاهم النبيّ صلى الله عليه وآله، فاحتضن الحسين وأخذ بيد الحسن، ومشت فاطمة خلفه وعليّ خلفها، فعلم أنهم المراد من الآية، وأنّ أولاد فاطمة وذرّيّتهم يسمّون أبناءه، وينتسبون إليه نسبة صحيحة نافعة في الدنيا والآخرة.
*******