في الثالث من حزيران عام 1989 ، انتقلت روح الإمام الخميني (قده) الى بارئها عن عمر ناهز 86 عاما، وفي الذكرى السنوية لرحيله الـ 35، يتجدد الحزن وألألم لغيابه، ونفتقده إماماً فقيهاً مجدداً وقائداً إسلامياً عظيماً خالداً حيّاً في قلوب ووجدان الامّة اليقظة..
الامام الخميني (قده)، كان قائداً ومفجراً للثورة الإسلامية في إيران، الذي أشتهر بفكره وعلمه وخطابه ومواقفه التي إيقظت الامة وشعوبها عبر طرحه مفهوماً تنويرياً جديداً للإسلام المحمدي الاصيل ولحكم الدولة الإسلامية على أسس الديمقراطية وحكم الشعب في تداول السلطة بعيدا عن التوريث الملكي والعائلي وبعيدا عن الاستئثار بالسلطة الحاكمة التقليدية.
فكان رجلاً عرفانياً وعالماً مجتهداً زاهداً، عاش عابداً ناسكاً متواضعاً قنوعاً وقانعاً بادنى مستوى من العيش البسيط، لم تغره مباهج الحياة الدنيا من مال وجاه وسلطة، ونادراً ما يجود الزمان بشخصية إستثنائية كالإمام الخميني الذي يتمتع بصفات قيادية موهوبة ربانية، ونادراً ما تجد له نداً او نظيراً، وهو الذي نذر حياته لخدمة الإسلام والمسلمين وإعلاء كلمة الله تعالى في سبيل الحق والعدالة والاصلاح، فكان مجاهداً ومقاوماً ومناضلاً، باع نفسه لله، وعانى الكثير من ويلات الاعتقال والسجن والنفي في سبيل تحصين الأمة والحفاظ على حضارتها وتراثها من عبث الافكار المادية والأهواء الشاذة ونظريات الامبريالية الغربية والشيوعية الكافرة السائدة أنذاك، وعمل على نصرة قضايا الامّة المستضعفة للتحرر والاستقلال، وإحياء الدين الحنيف والاخلاق والقيم الانسانية بعدما سقطت في متاهات وإغراءات الحياة المادية، والدعوة من جديد الى إيقاظ نور الإيمان وشعلة التقوى وعبادة الله الواحد، ورفع راية الصحوة الاسلامية التي أمتدت الى العالم أجمع.
هذا الرجل العظيم صاحب البصيرة النافذة الذي حقق حلم الأنبياء وغيّر مسار الأمّة والتاريخ، كما قال عنه الشهيد السيد محمد باقر الصدر (رض): “لم يكن الامام الخميني في طرحه لشعار الجمهورية الاسلامية الا استمراراً لدعوة الانبياء وامتداداً لدور محمد وعلى (ع) في اقامة حكم الله على الارض”، لهذا الطرح والتقييم يستحق بجدارة لقب: “رجل في أمّة وأمّة في رجل”.
رحل الإمام الخميني بعد ان ترك لنا تراثاً إسلامياً نضالياً وإنسانياً هائلاً، وإرثاً حضارياً عظيماً من الإنجازات الهامة التي شكلت منعطفا مهما في تاريخ العالم الحديث، وتطوراً كبيراً في تاريخ الامة الاسلامية والعالم.
من أبرز نتائج ثورته الاسلامية: قيام دولة إسلامية واعدة، ذات مرجعية دينية وسياسية تتبع نظرية ولاية الفقيه، تحوي تاريخاً عظيماً من الثقافة والمعرفة والعلم والجهاد والشهادة والتضحيات الكبرى والاحداث البطولية والمؤلفات القيّمة والمواقف التاريخية الخالدة، وتراثاً فكرياً وثقافياً اصيلاً، ومنهجاً اصولياً، ونهجاً راسخاً في تكريس الوحدة الاسلامية، وإلهاماً رائداً في تأسيس حركات ثورية تحررية..
هذه الإنجازات العظيمة ساهمت في تثبيت ركائز الدولة الإسلامية المحمدية الاصيلة، وأسست لبناء دولة جمهورية إسلامية مستقلة حرّة حديثة “لا شرقية ولا غربية” لا مثيل لها في العالم على الاطلاق، امتلكت قوة الإيمان والعزيمة والصبر الاستراتيجي والاقتدار السياسي والقدرة العسكرية والازدهار الاقتصادي، وتبنت أسس العلم والمعرفة الحديثة، وحازت وتفوقت بتقنية التكنولوجيا والابحاث والانتاج والتصنيع والتقدم والتطور، مما مكّنتها ان تصبح دولة قوية متحضرة، يحسب لها ألف حساب في مصاف الدول الكبرى في العالم، رغم التحديات الكبرى والصعاب والحصار الاقتصادي والعقوبات الظالمة التي فرضتها أمريكا وحلفائها على مدى 45 سنة…
بإنتصار ثورته، أصبح الإمام الخميني قائداً ملهماً للمستضعفين وقدوة للثوار والمقاومين خصوصا في لبنان وسوريا وفلسطين والعراق واليمن، ورمزاً للنضال والكفاح ضد المستكبرين والظالمين، وساهمت تجربة قيام الجمهورية الإسلامية الايرانية الناجحة بتعبيد الطريق امام توعية الشعوب المستضعفة والاجيال القادمة للنهوض والتظاهر والتحرك نحو التحرر والاستقلال من الانظمة الديكتاتورية والفاشية والشمولية والسلطوية، حيث مهّد هذا الوعي الثوري التحرري – الذي تخطى فكره وأيديولوجيته حدود إيران الجغرافية – بلورة نشوء محوراً مقاومياً عالمياً وممانعاً سياسياً للدفاع عن الشعوب المستضعفة والمغلوب على امرها من قبل حكامها وملوكها الطغاة والظالمين الذين طبّعوا مع الكيان الصهيوني ورهنوا مصيرهم بمصير الاستكبار العالمي الصهيوني.
هذا المحور المقاوم وحلفائه – وعلى رأسهم إيران – خاض العديد من الحروب المباشرة والناعمة والمركبة والهجينة المفروضة ظلماً وجوراً من قبل محور الشرّ الامريكي الصهيوني الغربي، وبفضل الشهداء وآثار دمائهم وتضحياتهم الجسام استطاع محور المقاومة والممانعة من إفشال كل مشاريع الهيمنة التقسيمية الامريكية والمخططات الصهيونية الاحتلالية والاستعمارية ، وحقق الانتصارات تلو الانتصارات، وقدم الكثير من قادته الكبار ومجاهديه المقاومين شهداء على درب الحرية والتحرر والعزة والكرامة، الذي خاض معارك التكفير والإرهاب والظلم والجور والعدوان والعبودية والاستبداد والطغيان ولا يزال، وخير دليل ما شهدته عملية “طوفان الاقصى” وما تبعها من حروب ومعارك في منطقة غرب آسيا، ومن سقوط شهداء كثر على درب القدس لتحرير فلسطين المحتلة.
تكريما لذكراه الخالدة، ووفاءّ لعطاءاته المجيدة، اتوجه لهذا القائد الهمام بتحية تقدير واحترام وإجلال.. وللامة والمستضعفين وأحرار العالم بخالص العزاء والمواساة.
الرحمة لروح الإمام الطاهرة.. والسلام عليك يوم ولدت، ويوم ناضلت، ويوم مت، ويوم تبعث حياً.
الوفاق ـ د. أحمد الزين