الحمد لله مآب التائبين وبهجة الأوابين مبدل سيئآتهم حسنات بمغفرته وكرمه. والصلاة والسلام على أبواب الهداية الالهية وكهف المتوجهين الى الله عزوجل محمد وآله الطيبين والطاهرين. السلام عليكم مستمعينا الاكارم ورحمة الله وبركاته. عناوين فقرات هذه الحلقة هي:
هدية تثمر بهجة الآخرة وسرورها
الانتحار وحب الحياة
التوبة وحسن الظن بالله وتبديل السيئآت
الى من تباع النفس؟
لنبدأ إذن جولتنا في هذه الحلقة من برنامج (عوالم ومنازل) تستمعون إليه من اذاعة طهران صوت الجمهورية الاسلامية في ايران.
*******
عنوان فقرتنا الاولى هو:
هدية تثمر البهجة والسرور في الآخرة
ايها الأخوة والأخوات من أزكى الاعمال الصالحة التي تثمر للمؤمن حالة البهجة والسرور عند الانتقال الى عوالم الآخرة هو إهداء ثواب صالح اعماله لأحب الخلق الى الله محمد وآله.
فالله تبارك وتعالى - وهو اكرم الأكرمين- يجازي المؤمن على هذا العمل المعبر عن مودته لأحب الخلق إليه عزوجل، يجازيه بما لا يخطر على باله من عظيم الثواب، نتدبر معاً في الحديث الشريف التالي:
روى السيد ابن طاووس (رضوان الله عليه) في كتابه القيم (جمال الاسبوع) أنه جاء في الحديث الشريف:
من جعل ثواب صلاته لرسول الله (صلى الله عليه وآله) وامير المؤمنين والأوصياء من بعده عليهم السلام ضعف الله ثواب صلاته اضعافاً مضاعفةً حتى ينقطع النفس.
ثم بين الحديث الشريف أن محمداً وآله (عليه وعليهم السلام) يخاطبون هذا المهدي لهم ثواب صلاته عند إحتضاره، ويبشرونه بعظمة الجزاء الالهي على هديته الحبية هذه، جاء في تتمة الحديث:
«ويقال له قبل أن تخرج روحه من جسده: يا فلان، هديتك الينا والطافك لنا، فهذا يوم مجازاتك ومكافأتك، فطب نفساً وقر عيناً بما اعد الله لك وهنيئاً لك بما صرت اليه...».
مستمعينا الاكارم، وقد جاء في تتمة الحديث، أن الراوي سأل الامام: كيف يهدي المؤمن صلاته لمحمد وآله (صلوات الله عليهم) وماذا يقول؟
اجاب إلامام (عليه السلام): ينوي ثواب صلاته لرسول الله (صلى الله عليه وآله) والائمة (عليهم السلام) ولو امكنه يزيد على صلاة الخمسين شيئاً ولو ركعتين.
ولعل المعنى مستمعينا الافاضل هو ان يهدي ثواب صلاته، ويتحقق ذلك بمجرد النية القلبية، ثم بين (عليه السلام) صورة الركعتين الإضافتين وترتيبها فيقول:
ركعتين في كل يوم ويهديها الى واحد منهم (عليهم السلام) يفتتح الصلاة في الركعة الاولى بمثل افتتاح صلاة الفريضة بسبع تكبيرات او ثلاث مرات او مرة في كل ركعتين ويقول بعد تسبيح الركوع والسجود ثلاث مرات (صلى الله على محمد وآله الطاهرين) في كل ركعة، فإذا تشهد وسلم قال:
اللهم انت السلام ومنك السلام واليك يعود السلام، حينا ربنا منك بالسلام، اللهم إن هذه الركعات هدية مني الى وليك [وتذكر إسمه] فصل على محمد وآله وبلغه اياها واعطني افضل املي ورجائي فيك وفي رسولك صلواتك عليه وآله وفيه (عليه السلام).
*******
مستمعينا الأعزاء، زميلنا عرض على ضيف البرنامج سماحة الشيخ محمد السند احد الاسئلة المهمة والتي يتكرر مضمونها، وذلك في هذا الاتصال الهاتفي الذي نستمع له الآن معاً:
المحاور: سماحة الشيخ من الاخ ابو طاهر عبر البريد الالكتروني وصلت هذه الاسئلة، مجموعة اسئلة اختار منها هذا السؤال يقول بعض الاشخاص انا جئت الى الدنيا بغير اختياري او بغير اختيار مني ولا ايد البقاء فيها فلماذا يعذ نبي الله يوم القيامة اذا خرجت منها منتحراً ماذا نقول او بماذا نرد على هذا القول؟ تفضلوا:
الشيخ محمد السند: بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على افضل الانبياء والمرسلين محمد وآل بيته الطيبين الطاهرين، الحقيقة الذي يظهر من الايات ان مجيء انسان الى دار الدنيا ليس عديم الاختيار من ذلك بل له نصيب من الارادة والرغبة في ذلك، كما تشير اليه الايات، قوله تعالى: «انا عرضنا الامانة على السماوات والارض والجبال فابين ان يحملنها واشفقن منها وحملها الانسان انه كان ظلوما جهولاً» فمن هذه يظهر ان هناك نوع من الاختيار، الاخ ربما يستغرب او الاخوة او السائل او المستمعين ربما يتسائلون انه كيف الاختيار حصل، الحقيقة الاختيار ليس كما نتصور عبارة عن موقف تفصيلي وبين خيارات متعينة على الانسان ويسير فيه، نحن نلاحظ من باب المثال جملة من السلوكيات تصدر منا حين صدورها ربما يكون يقل تركيز الاختيار او الوعي اتجاه تلك الابعاد ولكن هناك حلقات وسلسلة مقدمات متباعدة سابقة، هذه المقدمات والسلسلة من المعطيات الاعدادية انجزها الانسان بيده وتعاقبت تلو البعض بيده ومن ثم انتجت ذلك السلوك المعين فليس يعني انه ربما مثلاً من باب المثال يصدر من الانسان حسد بشكل تلقائي عفوي، كأنما لا ارادي او يصدر منه غضب او يصدر منه نزوة شهوية او نوع من الحدة المعينة في جانب من الجوانب والنزعات المختلفة، لا هذا يظن الانسان انه صدرت منه بضعف او قلة ارادة، ان كان ظاهر الحال هكذا ولكن في الحقيقة ان صدور مثل هذه الافعال من الانسان انما نجم وتولد وحصل نتيجة سلسلة بعيدة وسابقة من جملة من السلوكيات وجملة من الصفات، بالتالي يترتب عليها هذا المطلب، إذن مسأله الاختيار ليست منحصرة فقط في فرض طريقين امام الانسان ان ينتخب احدهما ويرجح احدهما على الاخر، هناك سلسلة من الافعال الاختيارية، الحالات الاختيارية، نتيجة مقدمات وافعال بعيدة وكثيرة جداً وبالتالي هذه لا تخرج عن الاختيار بالمرة بل هناك نمط من الاختيار يستغرب منه السامعون ولكن هو في الحقيقة نوع من الاختيار وهو نفس الرغبة عن علم وادراك وشوق، هذه بالتالي تكون نوع من الاختيار، علم الله برغبة ذات معينة مخلوقة وتطلعها نحو اتجاه معين هو في الحقيقة نوع من الاختيار لذلك المرغوب.
المحاور: يعني هذا ما يعبر عنه بأنه افاضة الوجود على من هو مستعد دون الوجود؟
الشيخ محمد السند: نعم بالضبط، نوع من الاختيار، في الحقيقة نفس سؤال الاخ او الذي طرحه عن الاخوة الاخرين هو يتضمن وينطبق في ذاته نوع من الرغبة في الدنيا لان هؤلاء الذين ينتحرون سبب انتحارهم هو شدة الامتحان او المحاولة للوصول الى حالة الامن والسكينة والصمأنينة والرغد في عيش امن، في رغد مستقر او ماشابه ذلك، هذه الرغبة اتجاه الجنة وهي الدار الآخرة، هذه الرغبة للاخرة انما يمكن الوصول اليها عبر ماذا؟ عبر حرف الدنيا، هذه رغبة في الدنيا بطريق غير مباشر بطريق الاعداد والمقدمة لان الوصول الى ذلك لا يتم الا بهذه والا فالانسان لا يرغب في العدم المطلق بأن يكون بتاتاً بالمرة وانما يرغب ان ينتقل الى مكان آخر، هؤلاء المتحرون في الواقع عندهم نزوع روحي لانهم يرون في الروح الراحة والطمأنينة والسكينة والاقبال على الباطن وعوالم الباطن نوع من السكينة والطمأنينة ويظنون بأن الوصول الى ذلك عبر التخلص القسري والانتحاري من دار الدنيا وهذا يخطئون في ذلك ولكن هو في الواقع المنتحر لا يريد ان يعدم نفسه بمعنى لا يوجد بالمرة وانما يريد ان يذهب بمثل الغوص في حالة منامية، في حالة استغراقية في اعمال الروح، هذا هو في الواقع المنتهى ولكن يخطأ هو في الاسلوب والوسيلة وآلآلة.
المحاور: يعني هو بالتالي يطلب الحياة سماحة الشيخ؟
الشيخ محمد السند: نعم يطلب الحياة الاكمل، والحياة الاكمل لا يمكن ان تمر الاعبر الاعداد وهذه رغبة في الدنيا ولكن بطريقة مقدمة، طريق الاعداد وطريق الاستلزام.
*******
ونجدد شكرنا لكم على متابعتكم اعزاءنا لهذه الحلقة من برنامج (عوالم ومنازل)
وننقلكم الى الفقرة التالية التي اخترنا لها عنوان:
التوبة وحسن الظن بالله وتبديل السيئآت
مستمعينا الأفاضل، ثمة رواية لطيفة مروية في تفسير العياشي رحمه الله بسنده عن الحلبي عن الامام الصادق (عليه السلام) وكذلك في كتاب الدر المنثور للسيوطي مسنداً بطرق كثيرة عن ابن عباس وغيره.
تقول الرواية إن ابي بن خلف اخذ عظماً بالياً من بستان ففته ثم قال: إذا كنا عظاماً ورفاتا أإنا لمبعوثون خلقاً؟
فأنزل الله عزوجل قوله: «وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم / قل يحييها الذي انشأها اول مرة وهو بكل خلق عليم».
وهذا من لطيف الاحتجاج وبليغ الجدال بالتي هي احسن - ايها الأخوة والأخوات- وهو يبين لنا أن إنكار الإنسان للمعاد ناتج من غفلته عن اصل خلقه، فالله هو القادر على كل شيء لا يعجزه شيء.
ومخلوقاته كلها آيات تشهد على عظمة قدرته، فكيف يمكن إنكار شيءٍ مما ورد ذكره في القرآن الكريم وصحاح السنة الشريفة من منازل المعاد والقيامة وحقائقها؟
اعزاءنا المستمعين، ومن امهات حقائق المعاد والقيامة ان الجميع محضرون فيها للحساب فالحشر عام لا يسثنى منه احد.
ومن اصرح الآيات الكريمة في بيان هذه الحقيقة قوله تعالى:
«إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم» وقوله تعالى: «إن كل لما جميع لدينا محضرون» (يس، ۱۲و ۳۲).
وقوله تعالى «وكل اتوه داخرين»، وكذلك قوله عز من قائل: «وحشرناهم فلم نغادر منهم احداً» (الكهف، ٤۷).
وكثير من آيات القرآن الكريم تصرح بهذه الحقيقة وتصرح بأن القيامة تقع بغتةً فجأة، فما هو الهدف من كثرة التأكيدات القرآنية على التذكير بهذه الحقيقة؟
لعل ثمة اكثر من هدف، لكن من اهم الأهداف المهمة هو أن إستذكار الانسان للمعاد ومنازله ومواقفه من اهم العوامل الرادعة عما يوجب له العذاب الأليم يوم الحساب.
نعم فكل منا سيوقف في ذلك اليوم ويسأل عن عمره في هذه الحياة الدنيا فيما افناه.
وكتاب الاعمال لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً الا احصاها وعلى كل منا أن يعد الجواب عن كل ذلك.
إذن الموقف صعب يومئذ للغاية، وابن آدم خطاء لا يقدر أن يحصي كل صغيرةِ وكبيرةٍ صدرت عنه فما العمل؟
رحمة الله اوسع مما نظن، فقد فتح امامنا ابواب النجاة من تلك المشاق وصعوبات ذلك الموقف.
اوسع هذه الأبواب تجديد التوبة بأستمرار وبنية صادقة، وقد علمتنا ادعية اهل بيت النبوة (صلوات الله عليهم) أن نستغفر الله مما نعلم من ذنوبنا ومما لا نعلم.
والتوبة الصادقة مقبولة بلا ريب وهي تجعل النائب من الذنب كمن لا ذنب له.
ومن الأبواب الواسعة الاخرى للنجاة تعميق الايمان وحسن الظن بكرم الله عزوجل وسعة مغفرته والله عند ظن عبده به.
لنتدبر معاً في قوله تعالى في سوره الفرقان في الآية السبعين: «الا من تاب وامن وعمل عملاً صالحاً فأولئك يبدل الله سيئآتهم حسنات وكان الله غفوراً رحيماً».
واخيراً لنتدبر في حديثين شريفين مرويين عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في تفسير الآية، ولكن بعد قليل.
الحديث الأول رواه الشيخ الصدوق بثلاثة اسانيد في كتاب (عيون الأخبار) عن الامام الرضا عن آبائه (عليهم السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) انه قال:
إذا كان يوم القيامة تجلى الله عزوجل لعبده المؤمن فيوقفه على ذنوبه ذنباً ذنباً، ثم يغفر الله له لا يطلع على ذلك ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً، ويستر عليه ما يكره ان يقف عليه احد ثم يقول لسيئآته: كوني حسنات.
والحديث الثاني رواه مسلم في صحيحه مرفوعاً الى ابي ذر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وفيه يصف حساب المؤمن وجاء فيه:
فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه ونحوا عنه كبارها، فيقال [له]: عملت يوم كذا وكذا، وهو مقر لا ينكر وهو مشفق من الكبار فيقال: اعطوه مكان كل سيئة عملها حسنةً، فيقول [المؤمن]: إن لي ذنوباً ما أراها ههنا؟
وجاء في ذيل الحديث عبارة من ابي ذر (رضوان الله عليه) تبين استبشار رسول الله (صلى الله عليه وآله) بسعة الرحمة الالهية وتبشيره المؤمنين بها، حيث قال ابوذر: ولقد رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) ضحك حتى بدت نواجذه.
*******
الى من تباع النفس؟
اعزاءنا المستمعين، من بليغ الأشعاد في ذم الركون الى الدنيا والاغترار بزخرفها ما جادت به قريحة شاعر اهل البيت (عليهم السلام) الشيخ كاظم الأزري رحمه الله حيث قال في مطلع احدى روائع شعره الحسيني:
إن كنت في سنةٍ من غادر الزمن
فانظر لنفسك واستيقظ من الوسن [أي النوم]
ليس الزمان بمأمون على احد
هيهات أن تركن الدنيا الى سكن
لا تنفق النفس الا في بلوغ منىً
فبايع النفس فيها غير ذي غبن
ودع مصاحبة الدنيا فليس بها
الا مفارقة السكان للسكن
والعيش انفس ما تفنى لذائذه
لولا شراب من الآجال غير هني
وكيف يحمد للدنيا صنيع يد
وغاية البشر منها غاية الحزن
وختاماً ندعو الله عزوجل أن يرزقنا واياكم - احباءنا - التجافي عن دار الغرور والانابة الى دار الخلود والاستعداد للموت قبل حلول الفوت. اللهم أمين، والى لقاءنا المقبل نستودعكم الله بكل خير والسلام عليكم ورحمة الله.
*******