نتابع حديثنا عن الادعية المباركة، ومنها الدعاء الموسوم بـ (يستشير) حيث حدثناك عن مقاطع متسلسلة منه في لقاءات سابقة وانتهينا من ذلك الى مقطع ورد فيه عن الله تعالى (عفوك عظيم وفضلك كثير وعطاؤك جزيل)، ان هذه العبارات تتحدث بوضوح عن العفو والفضل والعطاء، وكل واحد منها يتضمن الاشارة الى ما منحه الله تعالى لعباده من النعم التي لا تحصى والمطلوب الان هو ملاحظة هذه العبارات واستخلاص نكاتها وهذا ما نبدأ به الان.
المفردة الاولى من السمات المذكورة تقول عن الله تعالى بان عفوه عظيم، والسؤال هو مع اننا نعرف تماماً معنى العفو (وهو التجاوز عن الاساءة) الا ان التجاوز عن الاساءة له مفردات متنوعة لاتنحصر في عبارة "العفو" وهذا من نحو قوله تعالى مثلاً «وان تعفوا وتصفحوا وتغفروا» فهنا نلحظ كلمة "الصفح" ونلحظ كلمة "الغفران" وهما يعنيان ايضاً التجاوز عن الاساءة لذلك فان من حق قارئ الدعاء ان يميز بين هذه الانماط من العبارات التي تتقارب فيها المعاني لكن بما ان الدعاء الذي نحن بصدده قد اكتفى بعبارة وعفوك عظيم حينئذ تقتصر على ملاحظة دلالتها فحسب والسؤال الان هو ما المقصود بدقة من العبارة المتقدمة.
قلنا العفو هو التجاوز عن الاساءة ولكن المعنى الاكثر دقة للتجاوز هو ان ذنب العبد مثلاً قد يتجاوز عنه من خلال مسحه اساساً بحيث يبدو وكأن العبد لا ذنب له، وهذا ما نستخلصه من عبارة العفو التي تنتسب بجذرها الى تعفي التراب والاثر مثلاً فلو مشى احد على الارض الترابية مثلاً حينئذ فان الرياح تمسح اثر المشي بحيث لا يبقى شيء منه وهذا بالنسبة الى ذنب العبد يعني ان الله تعالى يتجاوز عن ذنوب عباده الى درجة المحو لها، وهذا هو منتهى النعمة دون ادنى شك.
لكن الامر لا يقف عند مجرد عدم ترتب اثر على الذنب بل نجد ان عبارة الدعاء تقول (وعفوك عظيم) أي ان الله تعالى لا يصدر منه العفو عن ذنوب العباد فحسب بل ان العفو المذكور يتسم بالعظمة أي ان عفو الله تعالى يتعاظم الى درجة هي الغاية في التعاظم وهو ما لا يستطيع الانسان تصدر درجته المذكورة مما يعني ان عظمة الله في عفوه عن ذنوب العبد من العظمة بمكان لا تحديد لدرجاتها.
ونتجه الى المفردة الاخرى وهي عبارة (وفضلك كثير) ثم عبارة (وعطاءك جزيل) هنا قد يتساءل قارئ الدعاء عن الفارق ايضاً بين الفضل وبين العطاء من جانب ثم الفرق بين ما هو (جزيل) وبين ما هو (كثير) حيث لاحظنا ان فقرة الدعاء تقول بالنسبة الى الفضل بانه كثير وبالنسبة الى العطاء بانه جزيل؟
بالنسبة الى الفضل فان معناه هو اغداق النعمة على الانسان بدون تحديد لنمطها فالفضل قد يكون مادياً او معنوياً وقد يكون بذلاً أي اعطاء وقد يكون اعم من ذلك فمثلاً الفضل قد يكون تجسداً في ابرائك من المرض او اعطائك الرزق الواسع او غيرهما بينما العطاء هو منح الشيء اياك كما لو اعطاك الله تعالى رزقاً واسعاً او نحو ذلك من الظواهر المادية غالباً وان كان من الممكن ان يتجاوزه الى المعنويات الا ان ذلك ينسحب على العبارة المجازية غالباً.
يتبقى ان نوضح لك الفارق بين ما هو كثير من الفضل وبين ما هو جزيل من العطاء، وهذا يمكن توضيحه من خلال الذهاب الى ان الكثرة تعني الوافر والعدد الكبير من اشكال الفضل بينما الجزيل من العطاء يعني العظيم من الشيء وحينئذ يكون الفارق هو كمياً ونوعياً فالكثير هو ما يشمل الكمية من الفضل بينما الجزيل يشمل النوعية من العطاء وبذلك يكون الله تعالى قد منح عباده ما هو الكثير وما هو العظيم من النعم التي لا تحصى كما هو واضح.
اذن امكننا ان نتبين ما تعنيه عبارات من امثال فضلك كثير، وعطاؤك جزيل، والمهم هو ان نسأله تعالى بان يمنحنا ذلك جميعاً ويوفقنا الى طاعته والتصاعد بها الى النحو المطلوب.
*******