بسم الله الرحمن الرحيم الحمدلله والصلاه والسلام على رسوله وآله الهداه الابرار مستمعينا الكرام السلام عليكم ورحمه الله تعالى وبركاته وأهلاً بكم الى برنامج (القصص الحق)
• ايها الاحبه في هذه الحلقة من البرنامج نواصل الحديث عن قصة نبى الله موسى على محمد وآله وعليه السلام التي ذكرت في سورة الشعراء من الآية ٤٦ السادسة والخمسين الى الحادية الخميس
• فتابعونا ايها الكرام ضمن الفقرات التالية
• بداية ننصت خاشعين الى تلاوة هذه الآيات
• ثم نتعرّف على معاني مفرداتها وعباراتها
• ونستمع الى الحوار القرآني الذي اجرى بشأن الآيات
• ثم نتابع سرد هذا الجزء من الحكاية
• ونغترف من معين عدل القرآن الكريم لنرتوي منهم في معرفة وفهم هذه الآيات
• ومسك الختام مع باقة من الدروس والعبر المأخوذة من هذه الحكاية
• فأهلاً ومرحباً بكم والى فقرات هذا اللقاء
*******
المقدمة
مستمعينا الكرام موضوع حديثنا في هذه الحلقة هو استمرار لما سبق من قصة النبي موسى (عليه السَّلام) بعدما تحدى السحرة في يوم الزينة وشهدوا ما شهدوا من المعجزة التي جاء بها النبي موسى (عليه السَّلام) عندما امره الله بأن يلقي عصاه لتلقف ما يأفكون فألقي عصاه وبالفعل تحولت العصا الى ثعبان مبين ولقفت كلما جاءوا به من السحر الذي عبر عنه القرآن بالعظيم.
والان تعالوا لنستمع الى القرآن الكريم وهو يحكي لنا ما حدث بعد ذلك فلنستمع سوية.
*******
التلاوة
" فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ(٤٥)
فَأُلْقِىَ السَّحَرَةُ سَـجِدِينَ(٤٦)
قَالُواْ ءامَنَّا بِرَبِّ الْعَـلَمِينَ(٤۷)
رَبِّ مُوسَى وَهَـرونَ(٤۸)
قَالَ ءَامَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِى عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لاَُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُم وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خَلَـف وَلاَُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ(٤۹)
قَالوُاْ لاَضَيْرَ إِنَّآ إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ(٥۰)
إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا ربُّنَا خَطَـيَنآ أَن كُنَّآ أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ(٥۱) "
*******
المفردات
ايها الاحبة أنّ القرآن يعبر في هذه الآيات عن خضوع السحرة بـ «أُلقي» وهو إشارة إلى منتهى التأثير وجاذبية معجزة موسى لهم، حتى كأنّهم سقطوا على الأرض وسجدوا دون اختيارهم واقترن هذا العمل العبادي ـ وهو السجود ـ بالقول بلسانهم إذ " قَالُواْ ءامَنَّا بِرَبِّ الْعَـلَمِينَ ".
ولئلا يبقى مجالُ للإبهام والغموض والتردد، ولئلا يفسر فرعون ذلك تفسيرا آخر فإنّهم قالوا ايضاً: " رَبِّ مُوسَى وَهَـرونَ ".
وهذا التعبير يدّل على أنّه وإن كان موسى (عليه السلام) متكفلاً لأمر المبارزة وإلقاء العصا ومحاججة السحرة، إلاّ أنّ أخاه هارون كان يعاضده في الأمر.
أمّا فرعون، عندما وجد نفسه مهزوماً معنوياً وكان يرى من جانب آخر أن وجوده وسلطانه في خطر، وخاصّة أنه كان يعرف أيّ تأثير عميق لإيمان السحرة في قلوب سائر الناس، ومن الممكن أن يسجد جماعة آخرون كما سجد السحرة، لذلك فقد تذرع بوسيلة جديدة وابتكار ماكر، فالتفت إلى السحرة و" قَالَ ءَامَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ ".
كما يقول أصحاب اللغة: إن الإيمان إذا تعدى باللام فإنه يعني الخضوع، وإذا تعدى بالباء فإنه يعني التصديق.
فرعون لم يكن مستعدّاً لأن يذكر اسم الله ولا اسم موسى، بل اكتفى بالقول " آمنتم له"! والمراد من هذا التعبير هو الاستهانة والاستخفاف.
إلاّ أن فرعون لم يقتنع بهذا المقدار، بل أضاف جملتين أُخريين ليُثّبت موقعه كما يتصوّر أوّلا، وثانيا لكي يستغفل الناس الذين أيقظتهم معجزة موسى (عليه السَّلام) وايمان السحرة –رضوان الله عليهم-.
فاتهم السحرة أوّلا بأنّهم تواطؤوا مع موسى(عليه السلام) وتآمروا على أهل مصر جميعاً، فقال: " إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِى عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ ".
اذن اتهمهم فرعون بأنكم قد اتفقتم مع موسى من قبل أن تردوا هذه الساحة، فتضلوا أهل مصر وتجرّوهم إلى الخضوع تحت سيطرة حكومتكم; وتعزلوهم عن مناصبهم وتخرجوهم من ديارهم وتُحلّوا العبيد محلهم.
إلاّ ان فرعون لم يدعهم ،بل اراد حسب زعمه ان يخنق المؤامرة في مهدها فقال: " فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لاَُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُم وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خَلَـف وَلاَُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ ".
أي: لا أكتفي بإعدامكم فحسب، بل أقتلكم قتلاً بالتعذيب والزجر بين الملأ العام، وعلى جذوع النخل، لأن قطع الأيدي والأرجل من خلاف يؤدي إلى الموت البطيء، فيذوق معه الإنسان التعذيب أكثر.
إلاّ أن فرعون لم يحقق هدفه هنا، لأن السحرة قد غمر قلوبهم الإيمان، بحيث لم يهزّهم تهديد فرعون، فأجابوه بضرس قاطع واحبطوا خطته.
" قَالوُاْ لاَضَيْرَ إِنَّآ إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ "، الضير هو الضرر، وقولهم: " إِنَّآ إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ " تعليل لقولهم: لا ضير أي إنا لا نستضر بهذا العذاب الذي توعدنا به لأنا نصبر ونرجع بذلك إلى ربنا وما أكرمه من رجوع.
ثمّ أضافوا بأنّهم واجهوا النّبي موسى (عليه السلام) من قبل بالتكذيب وأذنبوا كثيراً، ولكن مع ذلك فـ " إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا ربُّنَا خَطَـيَنآ أَن كُنَّآ أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ " اي انهم لا يخافون الموت والقتل بل يشتاقون إلى لقاء ربهم فكانهم يقولون: لا نخاف من عذابك شيئاً لأنا نرجع به إلى ربنا ولا نخاف الرجوع لأنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا بسبب كوننا أول المؤمنين بموسى وهارون رسولي ربنا.
وهنا ينقدح هذا السؤال، وهو: هل كان مرادهم أنّهم أوّل المؤمنين في ذلك المشهد؟! وهذا ما سنبحثه مع ضيف البرنامج بعد هذا الفاصل القصير.
*******
المحاورة: مستمعينا الاعزاء نستضيف في هذه الحلقة من برنامج القصص الحق سماحة السيد عبد السلام زين العابدين استاذ العلوم القرآنية من مدينة قم المقدسة، اهلاً بكم سماحة السيد عبد السلام زين العابدين
زين العابدين:الله يبارك فيكم
المحاورة: سماحة السيد في قصة السحرة نجد انهم آمنوا برب موسى وهرون بعد ان كانوا يرجون التقرب من بلاط فرعون بفضل ماشاهدوه من عظيم اعجاز الله على يد موسى عليه السلام، ما السر في ذلك؟
زين العابدين:طبعاً السر في ذلك هو انقلاب النظرة للعزة وللكرامة، كانوا يعتقدون هؤلاء السحرة بأن العزة عند هذا الطاغية، هم يكونون اعزاء يستمدون عزتهم من عزة الطاغية فرعون ولهذا نجد في سياق الاية المباركة حينما بدأوا بالسحر اقسموا بعزة فرعون " بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ " فهم كانوا يتصورون ان العزة بيد فرعون والعزة عند هذا الطاغية، مصدر العزة تحول حينما آمنوا بما قام به موسى، آمنوا بالله عزوجل تحول مركز العزة من الطاغية فرعون الى الله عزوجل فأصبحوا ينظرون الى هذا الطاغية نظرة استصغار مهما كان يهددهم ويتوعدهم مع العلم انهم كانوا يطلبون الاجر والاجرة على فعلهم، لو نقرأ سياق الايات المباركة في سورة الشعراء يقول القرآن الكريم " فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ* وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُم مُّجْتَمِعُونَ* لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِن كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ " يعني هنا السحرة كأن عندهم حالة من الطمع الدنيوي، هم يرجون العزة عند فرعون، يرجون الاجرة والاموال، " قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَّمِنَ الْمُقَرَّبِينَ " ، ليس فقط هناك اموال وثروة وانما من المقربين يعني تكونون من القريبين لي في الحكم تكونون وزراء في السلطة، " قَالَ لَهُم مُّوسَى أَلْقُوا مَا أَنتُم مُّلْقُونَ* فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ " هنا السر بعزة فرعون، هم كانوا يظنون، يحسبون خطأً ان مصدر العز والعزة والكرامة عند هذا الطاغية ولهذا اقسموا بعزته " ... بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ* فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ* فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ " لأن هؤلاء علماء يميزون بين السحر وبين غيره فعلموا ان ما فعله موسى ليس سحراً وانما معجزة الهية ربانية ولهذا هم اول من كان يميز بين السحر وغيره باعتبار انهم كانوا خبراء في هذا الامر " فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ* فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ* قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ* رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ " يعني تحول مركز العز من هذا الطاغية فرعون الى الله عزوجل ولهذا كل التهديدات لم تنفع ولم تجعلهم يرهبون هذا الطاغية ولهذا " قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ " هذا التهديد الفرعوني بالقتل ماذا اجابوا هؤلاء السحرة الذين كانوا قبل لحظات كانوا اذلاء، كانوا يتطلعون الى عزة فرعون، كانوا يقسمون بعزة فرعون حينما اصبحوا مؤمنين وتحول مركز العز من فرعون الطاغية الى الله عزوجل ماذا كان موقفهم في هذا التهديد الفرعوني بالقتل؟ " قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ " لاضير، الضير يعني ادنى الضرر، لم يقولوا لاضرر، الضير يعني ادنى الضرر اقل الضرر يسمى ضيراً، هؤلاء رغم هذا التهديد لكنهم يرون ان مركز العزة والكرامة عند الله عزوجل.
المحاور: طيب استاذ عبد السلام زين العابدين كيف عبر السحرة التائبون المؤمنون عن انفسهم بأنهم اول المؤمنين في حين نجد مثل هذا التعبير عن لسان بعض الانبياء؟
زين العابدين: احسنتم هذا سؤال رائع وجميل يعني " أَن كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ " يعني لأن كنا بنزع الخافض يعني لأن كنا اول المؤمنين، هم قالوا " إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا " بأعتبارهم كانوا حاشية فرعون كانوا يساندون الطاغية وكانوا حاشية لهذا الطاغية ويساعدوه في ظلمه ولهذا هم شعروا بأن هذا الموقف هو موقف خاطئ فطلبوا الاستغفار من الله عزوجل " إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَن كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ " طبعاً هنا اول المؤمنين بالنسبة لمن؟ بعض المفسرين قال اول المؤمنين من قوم فرعون يعني من الاقباط، من قوم فرعون، اول من آمن بموسى عليه السلام واعلن هذا الايمان من حاشية فرعون او من دولة فرعون هم هؤلاء السحرة ففتحوا فتحاً مبيناً، فتح الرفض لهذا الطاغية من قصره، من داخل جيشه واعوانه، ربما هذا التعبير " أَن كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ " بالنسبة لجماعة فرعون وحكومة فرعون السحرة كانوا اوائل المؤمنين في رفض هذا الطاغية او " أَن كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ " في تلك الوقعة هم كانوا اول المؤمنين لأنهم كما قلنا اصحاب خبرة فهم عرفوا ان مافعله موسى ليس سحراً وانما كان معجزة الهية ربانية فهم اول من ايقنوا بموسى عليه السلام وبما فعله موسى عليه السلام في تلك اللحظات يعني حينما موسى عليه السلام جعل من العصا حية فأخذت تلقف ما يأفكون، اللقف يعني الاكل بسرعة والالتقام بسرعة فهؤلاء كانوا من اول من آمن بموسى في تلك اللحظات العصيبة وذلك التحدي الكبير في يوم الزينة " قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى " يعني يوم العيد والضحى يعني الامور واضحة وليس ليلاً يعني آلاف الناس كانوا مجتمعين فالسحرة اعلنوا ايمانهم بكل قوة وبكل صلابة وكانوا اول المؤمنين في ذلك الحشد وفي ذلك الجمع.
*******
ايها الاحبة استمعنا الى الحوار القرآني الذي سلط الضوء على حقيقة الايمان بالله عزَّ وجلَّ الذي تجسد في موقف السحرة والآن ندعوكم لمتابعة سرد هذا الجزء من حكاية نبي الله موسى (عليه السَّلام).
*******
القصة
تبدّل كل شيء، وأنقلبت الموازين لدى السحرة بعد ان رأوا المعجزة الكبيرة التي جاء بها موسى (عليه السَّلام).
وثاب السحرة إلى رشدهم بعد أن كانوا يرجون التقرب الى فرعون وهم غارقون في الشيطنة، ولأنّهم كانوا عارفين بقضايا السحر ودقائقه، فإنّهم تيقنوا أن عصا موسى لم تكن سحراً، بل هي معجزة إلهية كبرى تحولت مشاعرهم بحيث لم يسعفهم الكلام للتعبير: " فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى ".
إنه فعل الحق في الضمائر. ونور الحق في المشاعر، ولمسة الحق في القلوب المهيأة لتلقي الحق والنور واليقين. إن السحرة هم أعلم الناس بحقيقة فنهم، ومدى ما يمكن أن يبلغ إليه. وهم أعرف الناس بالذي جاء به موسى.
ومن هنا تحول السحرة من التحدي السافر إلى التسليم المطلق، الذي يجدون برهانه في أنفسهم عن يقين.
هزَّت هذه المفاجأة العرش من تحت فرعون. مفاجأة استسلام السحرة - وهم من كهنة المعابد - لرب العالمين، رب موسى وهارون. بعد أن تم جمعهم لإبطال دعوة موسى وهارون لرب العالمين! ولأن العرش والسلطان أهم شيء في حياة الطواغيت، فهم مستعدون لإرتكاب أي جريمة في سبيل المحافظة عليهما.
تسائل فرعون مستغربا: " آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ ".
كأنما كان عليهم أن يستأذنوه في أن يعودوا للحق. لكنه طاغية متكبر متجبر أعمى السلطانُ عينيه عن الحق. ويزيد في طغيانه فيقول:
" إِنَّ هَـذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَا أَهْلَهَا " إن غلبته لكم في يومكم هذا إنما كان عن تشاور منكم ورضا منكم لذلك، وهو يعلم وكل من له عقل أن هذا الذي قاله من أبطل الباطل.
ويظل الطاغية يتهدد " فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ".
ويتوعد " لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ " لكن النفس البشرية حين تستيقن حقيقة الإيمان، تستعلي على قوة الأرض، وتستهين ببأس الطغاة، وتنتصر فيها العقيدة على الحياة, وتختار الخلود الدائم على الحياة الفانية.
اما السحرة المؤمنون :" قَالُواْ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ " إنه الإيمان الذي لا يتزعزع ولا يخضع.
ويعلن السحرة حقيقة المعركة: " وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءتْنَا " فلا يطلبون الصفح والعفو من عدوّهم، إنما يطلبون الثبات والصبر من ربهم: " رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِين".
فيقف الطغيان عاجزا أمام هذا الوعي وهذا الاطمئنان. عاجزا عن رد هؤلاء المؤمنين لطريق الباطل من جديد. فينفذ تهديده، ويصلبهم على جذوع النخل...
*******
من هدي الائمة (عليه السَّلام)
روي عن الامام جعفر الصادق (عليه السَّلام) قال: ان اشد الناس عذابا يوم القيامة لسبعة نفي: أوّلهم ابن آدم الذي قتل أخاه، ونمرود الذي حاجّ أبراهيم في ربّه، واثنان في بني اسرائيل هوّدا قومهم ونصّراهم، وفرعون الذي قال أناربّكم الأعلى واثنانفي هذه الأمة. وفي نهج البلاغة جاء: فأوجس موسى خيفة على نفسه، اشفق من غلبة الجهال ودول الضلال.
*******
دروس وعبر
التبدل والتغيّر المفاجيء العجيب في نفوس سحرة فرعون بحيث تحولوا من الظلمة المطلقة إلى النور المبين. ولم يكتفوا بذلك حتى أقحموا انفسهم في خطر القتل، وأعرضوا عن مغريات فرعون ومصالحهم المادية يدل على ان الاشخاص المستعدين لا يتملصوا عن قبول الحق بل يومنون به.
ان فرعون كان قد تربع على عرش الإستبداد سنين طوالا، ولم يكن يترقب من الناس أن لا يسجدوا أو يقوموا بعمل دون إذنه فحسب، بل كان ترقُّبه أن تكون قلوب الناس وأفكارهم مرهونةً به وبأمره، فليس لهم أن يفكّروا دون اذنه وهكذا هي سنة الجبابرة والمستكبرين.
طريقة الجبابرة والحكّام الظلمة في كل عصر وزمان، هي انهم في البدء يتهمون الرجال المصلحين بالتآمر ضد الناس، وبعد الإستفادة من حربة التهمة يعملون السيف في الرقاب ليضعف موقع المطالبين بالحق ولا يجدوا معاضداً لهم، فيزيحوهم من طريقهم.
قوّة الإيمان هي الطاقة والقوّة التي إن وُجدت في الإنسان صغرت عندها أعظم القوى، وهانت عنده أشد الأُمور، وكرمت نفسه بسخاء في موقف التضحية والإيثار إنّها شعلة العشق النيرة، التي تجعل الشهادة في سبيل الله أحلى من الشهد والعسل، وتصيّر الوصال إلى المحبوب أسمى الأهداف.
وهي نفس القوّة التي استعان بها النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وربّى المسلمين الأوائل عليها، وأوصل أمة جهلاءَ متأخرة إلى أوج الفخر بسرعة مذهلة، فكانت الأُمة المسلمة التي اذهلت الدنيا.
*******