المعنى الأول: أنَّ المراد من قوله تعالى: ﴿وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى﴾ (1) هو أنَّه تعالى أغنى الإنسان بالمال، وأعطاه القِنية وهو المال الذي يُقتنى ويدَّخر ويدوم كالبيت والبستان والمركب والمواشي كالغنم والإبل، فيكون أقنى من القِنية، ومنه قولك: قد اقتنيتُ كذا وكذا أَي عملتُ على أَنه يكون عندي لا أُخرجه من يدي، وقنوتُ الشيء أقنوه قَنْواً وقِنوةً، بالكسر أي جمعته (2).
وبناءً على ذلك يكون عطف (أقنى) على (أغنى) من عطف الخاص على العالم، فإنَّ الإغناء يشمل ما يُقتنى من الأموال، وإنَّما تمَّ ذكره رغم دخوله في المال للتنبيه على خصوصيته وعظيم أثره، وقد يكون المراد من الإغناء بالمال هو ما يكون من قبيل النقد ومن قبيل المال الذي يُستهلك بالانتفاع كالطعام والشراب، ويكون المال المقابل لذلك هو المال الذي يُقتنى ويُدَّخر ويكون له دوام كالبيت والماشية والدواب والبستان، وبناءً عليه يكون العطف من قبيل عطف المغاير على مغايره. فهو تعالى أعطى الغنى بالمال الذي يُستهلك، وأعطى المال الذي يقتنى، فمعنى أَقنى هو أنَّه أَعطاه ما يدَّخره بعد الكِفاية.
وما قد يقال إنَّه ليس كلُّ إنسانٍ أُعطي الغنى والكفاية، فإنَّه يقال إنَّ المقصود من الآية بناءً على ذلك هو أنَّه مَن أُعطيَ الغنى فإنَّ الله تعالى هو من أغناه وإنَّ من أعطية القِنية فإنَّ الله تعالى هو مَن أقناه، وعليه فالآية بصدد تصحيح ما يتوهَّمه الواهمون من أنَّ الغِنى الذي يحظى به الأغنياء هو من جهدِهم وتدبيرهم كما زعم ذلك قارون: ﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾ (3) فالآية تنفي ذلك الوهم وتؤكِّد أنَّ ما يحظى به الأغنياء من الغنى فهو من عند الله تعالى، فهو جلَّ وعلا مَن أغنى وأقنى.
المعنى الثاني: أنَّ المراد من قوله تعالى: ﴿وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى﴾ هو أنَّه تعالى أغنى وأرضى، فإنَّ العرب قد تستعمل هذا اللفظ في إفادة معنى الإرضاء يقال: أَقْناه إذا أَرْضاه، وأَقْناه أَي أَعطاه ما يَسكُن إليه، وقَنِيتُ به أَي رَضِيت به (4).
ولعلَّ هذا المعنى يرجع في المآل إلى المعنى الأول، فأقنى من القِنية وهو المال الذي يرتضيه الإنسان فيقتنيه ويدَّخره، ولذلك قيل: واقْتَنَيْت لنفسي مالاً أَي جعلته قِنية ارْتَضَيْته.
وعليه يكون مفاد الآية هو أنَّ الله تعالى أغنى الإنسان في معيشته بما أعطاه من أسباب الحياة كالمطعم والمشرب وأعطاه زيادةً على ذلك ما يرتضيه لمستقبل أيامه وللمزيد من راحته، ولعلَّ هذا المعنى هو مفاد ما ورد في معاني الأخبار للشيخ الصدوق بسندٍ معتبر عن السكوني عن جعفر بن محمد [عن أبيه] عن آبائه (عليهم السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في قول الله عز وجل: ﴿وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى﴾ قال: أغنى كلَّ إنسان بمعيشته، وأرضاه بكسب يده" (5).
وقريبٌ من هذا المعنى ما أفاده بعضُ المفسرين من أنَّ المراد من الآية هو أنَّه تعالى أغنى الإنسان بما هيأ له من أسباب المعيشة في صغره من رعاية الأم ونفقة الأب وحين كبر أقناه بالكسب، ومفاد الآية بناءً على ذلك أنَّه أغناه ثمَّ أقناه، ولعلَّ ما يؤيِّد ذلك هو الآيات التي جاءت الآية في سياقها: ﴿وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى / مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى / وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى / وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى﴾ (6) فهو تعالى خلق الإنسان الذكر والأنثى من نطفة ثم أنشأه ونفخ فيه من روحه ثمِّ إنَّه أغناه بما هيأ له من أسباب الحياة والمعيشة ثم أقناه بالكسب وأرضاه بهذا الخيار.
المعنى الثالث: أنَّ المراد من قوله تعالى: ﴿وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى﴾ أنَّه تعالى أغنى مَن شاء من عباده وأفقر من شاء منهم، فيكون المراد من أقنى هو أنَّه أفقر، فيكون مفاد الآية مساوقاً لمثل قوله تعالى: ﴿لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ (7) أي أنَّه يبسط الرزق لمن يشاء ويضيِّق الرزق على مَن يشاء من عباده.
وهذا المعنى وإنْ كان صحيحاً في نفسه وأكَّدته العديد من الآيات، إلا أنَّه لم يتَضح الوجه في اختياره معنىً للآية، سوى ما يُترآى من المقابلة بين أغنى وأقنى إلا أنَّ ما يمنع من القبول بهذا الوجه هو أنَّ كلمة (أقنى) ليست مستعملة -ظاهراً- بمعنى أفقر. ومنه يتَّضح البُعد لإرادة ما أفاده البعض من أنَّ معنى الآية هو أنَّه أغنى نفسَه وأفقرَ الخلائقَ إليه (8).
الشيخ محمد صنقور
---------------------------
1- سورة النجم / 48.
2- لسان العرب -ابن منظور- ج15 / ص202، مفردات ألفاظ القرآن -الرغب الأصفهاني- ص686.
3- سورة القصص / 78.
4- لاحظ: لسان العرب -ابن منظور- ج15 / ص202، مفردات ألفاظ القرآن -الرغب الأصفهاني- ص686.
5- معاني الأخبار -الصدوق- ص215.
6- سورة النجم / 45-48.
7- سورة الشورى / 12.
8- تفسير الثعلبي- الثعلبي- ج9 / ص156، تفسير السمعاني -السمعاني- ج5 / ص302.