والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين. ومن مصاديق الصادقين بأكثر من معنى هو العالم المحقق والمفسر والمؤلف سماحة الشيخ محمد جواد مغنية تغمده الله بواسع رحمته، هذا العالم الجليل هو من مواليد لبنان عام 1323 هجرية في منطقة طير دبا في جبل عامل، معقل العلم، جبل عامل معقل العلم والعلماء سابقاً وقد شب مستقبلاً الحياة من اب كاسب عادي لكن هو كان ولوعاً بالمعرفة منذ صغره يعني كان في دكان والده يقرأ القصاصات، الكتيبات، الجرائد فكان هذا مؤشراً الى انه لديه استعداداً ثقافياً، بعد ذلك دخل سلك اهل العلم وتدرج بسرعة فأكمل بعض المقدمات على شيوخ القرية ثم بعد ذلك هاجر الى النجف الاشرف وانضم الى تلاميذ المرحوم المرجع الديني انذاك السيد حسين الحمامي رضوان الله تعالى عليه وسكن مدرسة الخليلي العلمية في منطقة او محلة سوق العمارة ووصل الى مراحل متقدمة وقاسى شظف العيش، هو نقل لي مراراً انه كان لا يذوق اللحم الا مرة واحدة في الشهر وذلك لضيق وضعه المادي، لما نال الفضل والفضيلة عاد الى لبنان واستقبله اهل قريته كمفخرة من مفاخر لبنان ثم بعد ذلك عين قاضياً شرعياً لكفاءاته العالية ثم اختير مستشاراً للمحكمة العليا ثم رئيساً لها، هذا العالم الجليل الشيخ محمد جواد مغنية في الواقع عالم خالد، خالد بعطاءه قدم اذكى واوسع عطاء للامة الاسلامية فقد كتب اكثر من سبعين كتاباً وتفسيراً نال اعجاب القراء بالخصوص المثقفين وذلك لأسلوبه العصري الرائع، كان يسافر ويخطب وكتبه منتشره في العالم، بودي ان اوكد على هذه الملاحظة، لما كان يسافر في العالم ويصادفوه لايصدقون انه هو هذا المفكر الاسلامي الكبير لانه كان هزيل البدن، لباسه بسيط، مترسل في وضعه، هاديء في حديثه فهو يذكر هذه النكتة في هذا الاطار يقول سافرت الى القاهرة، حينما يزور القاهرة يزور الازهر فجلس في مكتبة الازهر يتصفح كتبها ثم طلب من امين مكتبة الازهر النسخة الاثرية القديمة من كتاب صحيح البخاري فتمسخر منه امين المكتبة لانه رأى وضعه بسيط فأبتسم وسخر منه ولم يستجيب له فأبتسم الشيخ محمد جواد مغنية ثم سأل امين المكتبة بعد ان شاهد منه الاستخفاف به قال له هل سمعت عن الشيخ محمد جواد مغنية؟ هذا الرجل شب قائماً واخذ يمجد بشخصية الشيخ محمد جواد مغنية بقلمه وبتصانيفه فقال له بهدوء: انا محمد جواد مغنية فأنبهر ذلك الرجل امين المكتبة وذهل واعتذر طبعاً هذه من الاخطاء الكبيرة التي نقع بها حينما نتجاهل المخبر وننغش بالمظهر وهذا من الاخطاء الفادحة في حياة البشر، بقي هناك، يقول المرحوم الشيخ محمد جواد مغنية بقيت هناك وهذا الرجل كان يقدم لي الخدمات الثقافية، في هذا الاطار يقول الشيخ محمد جواد مغنية مرة ركبت السيارة من مسجد السهلة الى النجف الاشرف، كانت الاجرة عشرين فلساً فلما اعطيت السائق اجرته اعادها الي ظناّ منه انني من الفقراء، قلت هو كان مترسلاً، عمامته غير مرتبة، ما كان يعير المظهر اهمية، السائق ظن بأني فقير، هذا العالم الجليل قام بأسفار عديدة والتقى البابا بولس السادس الفاتيكان وقدم له نسخة من الصحيفة السجادية للبابا بولس السادس، يقول رجعت الى لبنان واذا برسالة من البابا بولس السادس يشيد بالصحيفة السجادية ومضامينها ويقول: اني جعلتها مناراً لي في حياتي الشخصية والسياسية.
عاد المرحوم الشيخ محمد جواد مغنية الى النجف الاشرف مرة اخرى وسكن المدرسة الشبرية، انا الفقير كنت اتردد هناك على استاذي الخطيب السيد جواد شبر الشهيد في المدرسة الشبرية وهو كان قوي الصلة بالشيخ مغنية رحمة الله عليه فكنت احياناً ازور الشيخ محمد جواد مغنية في غرفته اراه مكباً على الكتاب والقلم بيده رغم ان ظهره تقوس من الكبر، لايكل، لايسأم، معلق في غرفته قطعة مكتوب فيها العمل العمل ولو بدقيقة، ثم لاحظت سعة اطلاع هذا العالم بالاديان، بالكتب السماوية كأنه حفظها اضافة الى القران الكريم ومع هذا لما يتحدث في محاضراته كأنه استاذ اكاديمي يخاطب العقل الجديد.
اما علاقته بأهل البيت فهذا احب ان اذكره واوكد عليه، كانت لا توصف، كان دؤوباً ان يقضي العشرة الاولى من المحرم في المجالس، كان يحب شعر القريض حينما امر عليه في غرفته يقول لي: اقرأ لي شعراً يا سيد حسن، فكنت اقرأ وكان يبكي، كان يحثني على المطالعة، يقول: اني اذا مر علي يوم ولم اقرأ كتاباً ارى وجهي في المراة كريهاً.
كان من صفاته ينام مبكراً مهما كانت الظروف ويستيقظ منتصف الليل للتهجد وبعد ذلك للمطالعة، اما عقليته السياسية فهي متقدمة ومنفتحة، زار في النجف الاشرف الامام الخميني وكان معجباً به ولكنه اشكل على السيد الامام بأنه لماذا لايتحرك في القضية الفلسطينية وها هي اسرائيل تعبث فساداً وتعيث الفساد فلما اكمل حديثه الامام الراحل قال له بعدما اصغى له قال له يا سماحة الشيخ مغنية انا اعرف ماذا تقصد واقدر ذلك لكنني الان في صراع مع الشاه الخائن والعميل ويجب اولاً ان نتضافر لأسقاطه ثم نتجه الى مسألة فلسطين، المرحوم الشيخ محمد جواد مغنية قال لم استوعب كلامه حتى نجحت الثورة الاسلامية وانهزم الشاه واقيمت الحكومة الاسلامية وفي ابتداء امرها فتحت سفارة لفلسطين في طهران وطرد السفير الاسرائيلي وتوالت خطب السيد الامام حول فلسطين فأدركت السر فيما قصده السيد الامام عند لقائي به، هو كان معجباً جداً بتعبيرات الامام الراحل لان اسرائيل غدة سرطانية لابد من ازالتها.
اما ذوق العلامة مغنية الادبي، قلت كان يحب الادب، عنده قطعة شعرية اخذتها ولديه قطع كثيرة لكن هو غادر النجف الاشرف بعدما اشتد بطش البعث الكافر في محاربة الدين والحوزة والعلماء في النجف فتفرقنا فهو راح الى لبنان وانا هربت من جانب لكن اتخطر له قطعة شعرية اعطانيها وهي من نظمه في ولائه لأهل البيت حفظتها واقرأها دائماً على المنبر، المقطوعة:
الله والمصطفى خير الخليقة لي
وصنوه المرتضى اولى الانام علي
من استغاث بهم في كل نائبة
يمسك بحبل ولاء غير منفصل
يا ليت شعري وهل تخفى ماثرهم
وهم اشهر من نار على جبل
هم الصراط وهم سفن النجاة
وهم الولاة لنا الهادون بالسبل
وكان رضوان الله تعالى عليه ما ان التقيته مرة او زرته مرة الا وخرجت بحصيلة علمية، اما تفسيره الكاشف فهو من انفع التفاسير، تفسير يتعاطى ويتعامل بالمراحل الراهنة يعني الوضع الحضاري الجديد وبلغة جداً مبسطة وعصرية وما وجدت قارئاً قرأه الا واستفاد منه، اخيراً على رغم هدوءه وقلة اختلاطه بالناس كان يكتب ويحاضر وشديشارك وبينما هو ذات ليلة في العشرة الاولى من المحرم عام 1400 هجرية يعني قبل 28 سنة، كان يحاضر عن الحسين في حارة صيدا اذ سقط من على المنبر وسكت وانتقل الى جوار ربه يعني هذه موتة يتمناها كبار المقدسين ان يدركه الاجل وهو على منبر سيد الشهداء وفي حديث اهل البيت وسيد الشهداء، ونقل جثمانه الى النجف الاشرف وشيع تشييعاً كبيراً منقطع النظير ودفن في النجف الاشرف بجوار مثوى سيد الاوصياء امير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه، تغمد الله المرحوم الشيخ محمد جواد مغنية بواسع رحمته والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
*******