ونحن نعيش هذه الأيام التي تتزامن مع ليالي القدر، ذكرى جرح واستشهاد اميرالمؤمنين ـ عليه السلام ـ فشخصية الإمام علي ـ عليه السلام ـ العظيمة التي اعترف بها المسلم وغير المسلم ومنهم الكاتب المسيحي الكبير "جورج جرداق" الذي الّف مجموعة كتب تحت عنوان: "علي صوت العدالة الإنسانية"، لا تحتاج الى تعريف حيث جاء استشهاد هذه الشخصية العظيمة في المسجد وفي شهر رمضان المبارك وتزامنا مع ليالي القدر العظيمة.
علي هذا، هو وليد الكعبة المشرفة، وإبن عم الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ وخليفته وزوج ابنته فاطمة سيدة نساء العالمين وأبو السبطين الشهيدين الحسن والحسين عليهما السلام سيدي شباب أهل الجنة وريحانتي الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ وهو أول من آمن برسالة النبي ودعوته، وأول من صلى معه، كما أنه لم يسجد قط للأصنام، وهو الذي افتدى الرسول بروحه إذ بات على فراشه يوم تآمرت القبائل وتكالبت على قتله.
ولقد قال فيه الرسول ـ صلى الله عليه وآله: "علي مع الحق والحق مع علي يدور معه حيثما دار". وقال أيضاً: "يا علي أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ انه لا نبي بعدي".
توافق ليلة التاسع عشر من شهر رمضان المبارك الذكرى الأليمة لفقد الأمة أمامها العادل، إذ جرح في فجرها على يد أشقاها ابن ملجم المرادي لعنة الله عليه.
وامتدت في فجر اليوم التاسع عشر من شهر رمضان المبارك، عام 40 هـ، يد اللئيم ابن ملجم إلى الإمام علي ـ عليه السلام ـ، إذْ ضَربَهُ بسَيفِه المسموم وهو يصلي في مسجد الكوفة.
لقد قضى أمير المؤمنين (سلام الله عليه) شهيداً بالكوفة على يد شر خلق الله عبد الرحمن بن ملجم وهو من الخوارج وذلك في الحادي والعشرين من شهر رمضان سنة أربعين من الهجرة، وكان له من العمر يومئذ ثلاث وستون سنة قضاها في سبيل الله ومن أجل إحلال العدل وإقامة حكم الله في الأرض.
*سويعات الليلة الموعودة
وفي إحدى ليالي شهر رمضان لعام أربعين للهجرة، وهي ليلة التاسع عشر منه جاءت ابنته أم كلثوم وقدمت إليه عند إفطاره طبقاً فيه قرصان من خبز الشعير وقصعة فيها لبن وملح خشن ، فلما فرغ من صلاته أقبل على فطوره، فلما نظر إليه وتأمله حرّك رأسه وبكى بكاءً شديداً عالياً، وقال: "يا بنية ما ظننت أنّ بنتاً تسوء أباها كما قد أسأتِ أنت إلي"، قالت: وماذا يا أباه؟ قال: "يا بنية أتقدمين إلى أبيك إدامين في طبقٍ واحدٍ ؟ أتريدين أن يطول وقوفي غداً بين يدي الله عزّ وجلّ يوم القيامة أنا أريد أن أتّبع أخي وابن عمي رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ ما قدّم إليه إدامان في طبق واحد إلى أن قبضه الله، يا بنية ما من رجل طاب مطعمه ومشربه وملبسه إلاّ طال وقوفه بين يدي الله عزّ وجلّ يوم القيامة، يا بنية والله لا آكل شيئاً حتى ترفعي أحد الإدامين"، فلما رفعته تقدم إلى الطعام فأكل قرصاً واحداً بالملح الخشن، ثم حمد الله وأثنى عليه وقام إلى صلاته فصلى ولم يزل راكعاً وساجداً ومتضرعاً إلى الله سبحانه، ويكثر الدخول والخروج وهو ينظر إلى السماء وهو يتململ، ثم قرأ سورة (يس) حتى ختمها، ثم رقد هنيئة وانتبه من نومه ونهض قائماً وهو يقول: "اللهم بارك لنا في لقائك" ويكثر من قول: "لا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم" وكان الامام علي ـ عليه السلام ـ قد رأى في هذه الليلة رؤيا حدّثت بها ابنته أم كلثوم حيث قال لأولاده: "إني رأيت الساعة رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ في منامي وهو يقول لي: يا أبا الحسن إنك قادم إلينا عن قريب، يجيء إليك أشقاها فيخضب شيبتك من دم رأسك، وأنا والله مشتاق إليك وانك عندنا في العشر الآخر من شهر رمضان".
قال فلما سمعوا كلامه ضجّوا بالبكاء فأقسم عليهم بالسكوت، ثم أقبل يوصيهم ويأمرهم بالخير وينهاهم عن الشر ثم صلى حتى ذهب بعض الليل، ولم يزل تلك الليلة قائماً وقاعداً وراكعاً وساجداً، ثم يخرج ساعة بعد ساعة يقلب طرفه في السماء وهو يقول: "والله ما كذبت ولا كذبت، وإنها الليلة التي وعدت بها".
*الجريمة.. والفوز بالشهادة
وما أن لاح وقت الأذان حتى توضأ ونزل إلى الدار وكان في الدار أوز أهدي إلى الحسين ـ عليه السلام ـ، فلما نزل خرجن وراءه، ورفرفن وصحن في وجهه، وكان قبل تلك الليلة لم يصحن فقال ـ عليه السلام ـ: "لا إله إلاّ الله صوارخ تتبعها نوائح"، فلما وصل إلى الباب وعالجه ليفتحه تعلق الباب بمئزره حتى سقط فأخذه وشده وهو يقول:
اشدد حيازيمك للموت فإن الموت لاقيكا ولا تجزع من الموت إذا حلّ بناديكا
ولا تـغـتـر بالـدهر وان كـان يـواتـيـــكا كما أضحكك الدهر كذاك الدهر يبكيكا
ثم قال: "أللهم بارك لنا في الموت، أللهم بارك لي في لقائك"، وسار أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ حتى دخل المسجد، والقناديل قد خمد ضوؤها، فصلى في المسجد وحده، وكان في المسجد ثلاثة رجال أحدهم اللعين ابن ملجم قاتل الإمام أما الآخران فهما شبيب بن بحيرة ووردان بن مجالد، فلما أذّن ـ عليه السلام ـ ونزل من المئذنة جعل يسبح الله ويقدسه ويكبره واتجه إلى محرابه وقام يصلي فتحرك إذ ذاك ابن ملجم وقف بإزاء الاسطوانة التي كان الإمام ـ عليه السلام ـ يصلي عليها، فأمهله حتى صلى الركعة الأولى وركع وسجد السجدة الأولى منها ورفع رأسه، فعند ذلك أخذ السيف، ثم ضربه على رأسه الشريف، فوقع الإمام ـ عليه السلام ـ على وجهه ولم يتأوه بل قال: "بسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله"، ثم صاح وقال: "فزت ورب الكعبة، فزت ورب الكعبة ".
وأحاط الناس بأمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ في محرابه وهو يشدّ الضربة ويأخذ التراب ويضعه عليها.
ثم تلا قوله تعالى: "مِنْهَا خَلَقْنَاكمْ وَفِيهَا نُعِيدُكمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكمْ تَارَةً أُخْرَى" (طه / 55).
قال الراوي : فلما سمع الناس الضجة ثار إليه كلُّ من كان في المسجد ، وصاروا يدورون ولا يدرون أين يذهبون من شدة الصدمة والدهشة ، ثم أحاطوا بأمير المؤمنين عليه السلام وهو يشد رأسه بمئزره ، والدم يجري على وجهه ولحيته ، وقد خضبت بدمائه وهو يقول : هذا ما وعد الله ورسوله, وصدق الله ورسوله .
قال الراوي: فاصطفقت أبواب الجامع ، وضجت الملائكة في السماء بالدعاء، وهبَّتْ ريحٌ عاصفٌ سوداء مظلمة، ونادى جبرئيل عليه السلام بين السماء والأرض بصوت يسمعه كل مستيقظ: "تهدمت والله أركان الهدى، وانطمست والله نجوم السماء وأعلام التقى، وانفصمت والله العروة الوثقى، قُتِلَ ابن عم محمد المصطفى، قُتِلَ الوصي المجتبى، قُتِلَ علي المرتضى، قُتِلَ والله سيد الأوصياء، قتله أشقى الأشقياء". (بحار الأنوار 42 : 279(.
*يرأف بقاتله
ثم إن بعض أصحاب أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ قبضوا على ابن ملجم وساقوه إلى موضع للإمام فقال له الحسن ـ عليه السلام ـ: "هذا عدو الله وعدوك ابن ملجم قد أمكن الله منه وقد حضر بين يديك"، ففتح أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ عينية ونظر إليه وهو مكتوف وسيفه معلق في عنقه، فقال له بضعف وانكسار وصوت رأفة ورحمة: "يا هذا لقد جئت عظيماً وخطباً جسيماً أبئس الإمام كنت لك حتى جازيتني بهذا الجزاء"، ثم التفت ـ عليه السلام ـ إلى ولده الحسن ـ عليه السلام ـ وقال له: "إرفق يا ولدي بأسيرك وارحمه وأحسن إليه وأشفق عليه، ألا ترى إلى عينيه قد طارتا في أمّ رأسه، وقلبه يرجف خوفاً ورعباً وفزعاً"، فقال له الحسن ـ عليه السلام ـ: "يا أباه قد قتلك هذا اللعين الفاجر وأفجعنا فيك وأنت تأمرنا بالرفق به؟!" فقال له: "نعم يا بني نحن أهل بيت لا نزداد على الذنب إلينا إلاّ كرماً وعفواً، والرحمة والشفقة من شيمتنا لا من شيمته، بحقي عليك فأطعمه يا بني مما تأكله، واسقه مما تشرب، ولا تقيد له قدماً، ولا تغل له يداً، فإن أنامتّ فاقتص منه بأن تقتله وتضربه ضربة واحدة، ولا تمثل بالرجل فإني سمعت جدك رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ يقول: إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور، وإن عشت فأنا أولى بالعفو عنه، وأنا أعلم بما أفعل به، فإن عفوت فنحن أهل بيت لا نزداد على المذنب إلينا إلاّ عفواً وكرماً".
*الوصية الأخيرة
وبعد أن أصيب الإمام بضربة ابن ملجم اللعين جمع أهله وولده وأوصى الحسن والحسين عليهما السلام بوصية قال فيها:
"أوصيكما بتقوى الله وان لا تبغيا الدنيا وان بغتكما، ولا تأسفا على شيء منها زوي عنكما، وقولا بالحق واعملا للآخرة وكونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً , أوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي بتقوى الله ونظم أمركم وصلاح ذات بينكم فإني سمعت جدّكما (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: صلاح ذات البين أفضل من عامّة الصلاة والصيام، الله الله في الأيتام فلا تغبّوا أفواههم ولا يضيعوا في حضرتكم، والله الله في جيرانكم فإنهم وصية نبيكم، ما زال يوصي بهم حتى ظننا انه سيورثهم والله الله في القرآن لا يسبقكم بالعمل به غيركم، والله الله في الصلاة فإنها عمود دينكم، والله الله في بيت ربكم لا تخلوه ما بقيتم، والله الله في الجهاد بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم في سبيل الله، وعليكم بالتواصل والتبادل، وإياكم والتدابر والتقاطع، ولا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيولى عليكم أشراركم ثم تدعون فلا يستجاب لكم".
فكان امير المؤمنين الإمام علي ـ عليه السلام ـ أبا الأيتام ويساعد المساكين والجميع، فبعد جرحه أخذ الأطفال يأتون الى بيته بأقداح الحليب لكي يزيح أثر السم، وكانت اصوات الدعاء والإنابة تُسمع، والأيادي مرتفعة الى الباري تعالى لطلب شفاء أميرالمؤمنين ـ عليه السلام ـ، وكان ذلك في مثل هذه الأيام، ألا لعنة الله على قتلة أميرالمؤمنين الإمام علي عليه السلام.
المصدر : مواقع