ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ ـ عليه السلام ـ أنه قال: "اِعْقِلُوا الْخَبَرَ إِذا سَمِعْتُمُوهُ عَقْلَ رِعايَةٍ لا عَقْلَ رِوايَةٍ فَإِنَّ رُواةَ الْعِلْمِ كَثيرٌ وَرُعاتُهُ قَليلٌ".
وكل يوم من الفجر إلى المساء، بل إلى أن ننام، تنهمر علينا مئات الأخبار الدينية منها والسياسية والاقتصادية والأمنية وسوى ذلك، ومعظمها إن لم يكن جميعها نتلقاها بالتسليم، ولا نمنح أنفسنا فرصة قليلة للتفكير فيها وتمحيصها، والتثبت منها، والبحث عن مصدرها، والسؤال عن صحتها، ولا نكتفي بقراءتها، بل نسارع إلى نشرها على أصدقائنا، في تطبيقات التواصل المختلفة، وقد يكون ذلك خطيراً فيما لو كان ما يَصلُنا مبتَدَع مُختَلَق، إذ نحقق لمبتدعه هدفه، ونتسبب بإشاعة الفوضى الاجتماعية، وإن كنا ننشر خبراً أو رواية منسوبَين إلى النبي الأكرم ـ صلى الله عليه وآله ـ أو الأئمة الأطهار ـ عليهم السلام ـ وهما لا يمتَّان إليهم بصلة، فقد نتسبب بإضلال الناس، بل نُشَوِّه صورة الدين، ونجعل منه ديناً يشتمل على المغالطات والخزعبلات، والمُبالغات، وما يكون فيه غُلُوٌّ، وقد يتسبب بانحرافات عقائدية وفكرية خطيرة. وهذا ما يكثر حصوله في زماننا هذا، وسيكثر في المستقبل إن لم نتعلم مهارة التعامل مع الأخبار التي تنهمر علينا من كل حدَبٍ وصَوب.
إن عالمنا اليوم مَليء بالأخبار المكذوبة والمُختَلَقَة، الدينية منها وغير الدينية، وهي إحدى أهم الوسائل التي يستعملها أعداؤنا إما بقصد الإساءة إلى الدين، أو بقصد التأثير في العقول والأفكار، أو بقصد إشاعة الفوضى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، أو إحداث خلافات طائفية أو مذهبية، وغالباً ما يساعد على نشرها أشخاص لم يتثبتوا منها، ولم يُحلِّلوها تحليلاً عِلمياً رصيناً، بل يقتصر دورهم على ترديد ونقل ما يسمعون ويتلقون كترديد الببغاء لأصوات البشر، دون أن يفهموه ويعقلوه.
في الحديث العلَوي المتقدم يدعونا الإمام أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ إلى أن نتعَقَّل في الخبر، ونتدبر فيه، ونحلله، وننقده، ونقف على دلالته، ونبحث في أسانيده، ونعرضه قبل كل شيء على مقياس علمي كي نعرف صدقه من كذبه، ولا نكتفي بسماعه، كما لا ينبغي أن نكتفي بوثاقة الراوي، فلربما روى الحديث وهو لا يفهمه ولا يفقهه، فقد جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله: "نَضَّرَ اللّهُ عَبْداً سَمِعَ مَقالَتي فَوَعاها، وَحَفِظَها، وَبَلَّغَها مَنْ لَمْ يَسْمَعْها، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرُ فَقِيْهٍ، وَرُبَّ حامِلِ فِقْهٍ إِلى مَنْ هُوَ أْفْقَهُ مِنْهُ".
وعليه فيجب أن نتعامل مع الأخبار بوعي ودِرايَة، وأن نَعْقِلَها عقل رِعاية ومعرفة وفَهم، لا أن نكتفي بروايته وترديده، فإن رواة العلم كثير، ورعاته قليل، وقد رُوِيَ عن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ أنه قال: "كُونُوا لِلعِلمِ وُعَاةً، وَلا تَكُونوا لَهُ رُواةً".
ويحسن بي أن أختم هذه المقالة بما جاء عن الإمام أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ في رواية طويلة أقتصر على المُهِمِّ منها: "إِنَّ فِي أَيْدِي النَّاسِ حَقّاً وَبَاطِلًا، وَصِدْقاً وَكَذِباً، وَنَاسِخاً وَمَنْسُوخاً، وَعَامّاً وَخَاصّاً، وَمُحْكَماً وَمُتَشَابِهاً، وَحِفْظاً وَوَهَماً...وَإِنَّمَا أَتَاكُمُ الْحَدِيثُ مِنْ أَرْبَعَةٍ لَيْسَ لَهُمْ خَامِسٌ:
رَجُلٍ مُنَافِقٍ يُظْهِرُ الْإِيمَانَ مُتَصَنِّعٍ بِالْإِسْلَامِ، لَا يَتَأَثَّمُ وَلَا يَتَحَرَّجُ أَنْ يَكْذِبَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وآله ـ مُتَعَمِّداً، فَلَوْ عَلِمَ النَّاسُ أَنَّهُ مُنَافِقٌ كَذَّابٌ لَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُ، وَلَمْ يُصَدِّقُوهُ... فَهَذَا أَحَدُ الْأَرْبَعَةِ*.
*وَرَجُلٍ سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وآله ـ شَيْئاً لَمْ يَحْمِلْهُ عَلَى وَجْهِهِ، وَوَهِمَ فِيهِ، وَلَمْ يَتَعَمَّدْ كَذِباً، فَهُوَ فِي يَدِهِ يَقُولُ بِهِ، وَيَعْمَلُ بِهِ، وَيَرْوِيهِ، فَيَقُولُ: أَنَا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وآله ـ فَلَوْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُ وَهَمٌ لَمْ يَقْبَلُوهُ، وَلَوْ عَلِمَ هُوَ أَنَّهُ وَهَمٌ لَرَفَضَهُ.
وَرَجُلٍ ثَالِثٍ سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وآله ـ شَيْئاً أَمَرَ بِهِ ثُمَّ نَهَى عَنْهُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَوْ سَمِعَهُ يَنْهَى عَنْ شَيْءٍ ثُمَّ أَمَرَ بِهِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ فَحَفِظَ مَنْسُوخَهُ وَلَمْ يَحْفَظِ النَّاسِخَ وَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ لَرَفَضَهُ وَلَوْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ إِذْ سَمِعُوهُ مِنْهُ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ لَرَفَضُوهُ.
*وَآخَرَ رَابِعٍ، لَمْ يَكْذِبْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وآله ـ مُبْغِضٍ لِلْكَذِبِ خَوْفاً مِنَ اللَّهِ وَتَعْظِيماً لِرَسُولِ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وآله ـ لَمْ يَنْسَهُ، بَلْ حَفِظَ مَا سَمِعَ عَلَى وَجْهِهِ، فَجَاءَ بِهِ كَمَا سَمِعَ، لَمْ يَزِدْ فِيهِ وَلَمْ يَنْقُصْ مِنْهُ، وَعَلِمَ النَّاسِخَ مِنَ الْمَنْسُوخِ، فَعَمِلَ بِالنَّاسِخِ وَرَفَضَ الْمَنْسُوخَ، فَإِنَّ أَمْرَ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وآله ـ مِثْلُ الْقُرْآنِ نَاسِخٌ وَمَنْسُوخٌ، وَخَاصٌّ وَعَامٌّ، وَمُحْكَمٌ وَمُتَشَابِهٌ، قَدْ كَانَ يَكُونُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وآله ـ الْكَلَامُ لَهُ وَجْهَانِ كَلَامٌ عَامٌّ وَ كَلَامٌ خَاصٌّ مِثْلُ الْقُرْآنِ... فَيَشْتَبِهُ عَلَى مَنْ لَمْ يَعْرِفْ وَلَمْ يَدْرِ مَا عَنَى اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ صلى الله عليه وآله..."
بقلم الباحث في الدراسات القرآنية بلال وهبي