الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
ومن الصادقين والعاملين في سبيل الله ورسوله هو التابعي للتابعين المرحوم عبد الله بن المبارك المروزي وكانت هذه الشخصية من اشهر علماء زمانه، وذكر اصحاب التراجم انه ثقة ومحدث وعارف وقد ذكره الخطيب البغدادي واثنى عليه وروى عن ابي اسامة انه قال كان ابن المبارك في اصحاب الحديث كما كان امير المؤمنين في الناس، وكان عبد الله بن المبارك يقاس بسفيان الثوري وابن عيينة الا انه يرجح عليهم علمياً، عبد الله بن المبارك هو من مواليد مدينة مرو عام 118 هـ وفي السنين الاخيرة من حياته كان مرجعاً في الفتيا لاهل خراسان وقد تردد على الكوفة كثيراً لطلب العلم وكذلك كان يتردد على الجوامع العلمية ببغداد وله ضمن هذه السفرات مناظرات مع ابي حنيفة امام المذهب الاسلامي الحنفي ومن الطريف في هذا انه كان يناقش ابا حنيفة حول مسألة تكبيرة الاحرام حيث يرى ابو حنيفة ان لا توجد حاجة لرفع اليدين في التكبيرة الاولى لبدأ الصلاة في حين يرى الامامية استحباباً لرفع اليدين والاشارة عند شروع الصلاة، فصلى عبد الله بن المبارك وطبعاً اومأ بيديه للتكبيرة وبعد الصلاة خاطبه ابو حنيفة ما بالك رفعت يديك بالتكبيرة اتريد ان تطير قال له عبد الله بن المبارك فما بالك انت رفعت يديك بالتكبيرة الثانية فلو كان للطيران لطرت اول وهلة ولطرت من بعدي، هذا وقد مدح بعض الشعراء هذا العالم الجليل وهذه الشخصية الفذة ومن الذين مدحوه عمار بن الحسن حيث قال:
اذا سار عبد الله من مر ليلةً
فقد سار منها نورها وجمالها
اذا ذكر الاحبار في كل بلدة
فهم انجم فيها وانت هلالها
وقال عن عبد الله بن المبارك انه زار الشام وناقش بعض العلماء واستعار من احدهم قلماً وهذه لفتة جميلة في حياة هذه الشخصية فنسي ووضعه بجيبه فلما رجع الى مرو انتبه ان القلم في جيبه فعاد راجعاً الى الشام ليعيد القلم لصاحبه وكان يقول اني انتخبت اربع كلمات من اربعة آلاف حديث يعني كناية ان الخلاصة او الزبدة، لا تغترن بمال ولا تحمل نفسك ما لا تطيق ولا تثقن بأمرأة وتعلم من العلم ما ينفعك، ولعبد الله بن المبارك من الشعر الهادف والناقد فقد كتب لاحد تلاميذه الذين درسهم برهة من الزمن ثم بلغه ان تلميذه هذا اصبح من اهل الدنيا فبعث اليه ابياتاً يعاتبه:
قد يفتح المرء حانوتاً لمتجره
وقد فتحت لك الحانوت للدين
صيرت دينك شاهيناً تصيد
به وليس يفلح اصحاب الشواهين
وايضاً في هذا الاطار قرأت له ابياتاً جميلة وايضاً قد كتبها لصديق له من اهل العلم وكان يدعي الزهد والتقوى واذا به عمل قاضياً عند السلطة فكتب له عبد الله بن المبارك هذه الابيات:
يا جاعل العلم له بازياً
يصطاد اموال المساكين
احتلت للدنيا ولذاتها
بحيلة تذهب بالدين
فصرت مجنوناً بها بعدما
كنت دواءً للمجانين
اين رواياتك في سردها
عن بن عون وابن سيرين
اين رواياتك والقول في اتيان
ابواب السلاطين
ان قلت اكرهت فذا باطل
زل حمار العلم في الطين
وذكر صاحب تذكرة الخواص - ابن الجوزي- ان هذا العالم الجليل عبد الله بن المبارك كان يعد نفسه للحج خمسين عاماً ويهيأ لذلك مالاً حتى جمع بعد فترة وعناء شديد خمسمئة دينار ليذهب بها الى اداء فريضة الحج، يروي صاحب تذكرة الخواص عن عبد الله بن المبارك يقول لما جمعت المال وضعتها في كمي وخرجت ذات ليلة اتمشى صوب الجمالين في الكوفة بحثاً عن جمال اتفق معه للسفر للحج ولم اعثر تلك الليلة على جمال، ورجعت متأخراً في غلس الليل فرأيت في بعض الزقاق امرأة ويظهر عليها انها جليلة القدر وجلست عند المزابل وهي تبحث في القمامة فصبوت اليها واذا بها تنتف ريش بطة ميتة وكانت تتلفت يميناً وشمالاً بحذر، اخذت البطة وذهبت، اخفتها تحت عبائتها فتبعتها ولما وصلت اليها سألتها عن امرها فكانت مضطربة ثم قالت يا هذا لاتسأل عما لا يعنيك فألححت عليها فأنفجرت باكية وقالت الجأتني الى كشف سري اليك يا هذا اني علوية وعندي من البنات اربع يتامى مات ابوهن منذ سنوات وهذا اليوم الرابع مر علينا وما عندنا من الطعام شئ فأضطررت الى ما ترى، يقول عبد الله بن المبارك تأثرت كثيراً وجزعت وقلت مخاطباً نفسي اين انت عن هذه ثم قلت لها افتحي لي حجرك، صببت الدنانير كلها في حجرها والغيت سفري الى الحج وبقيت منعزلاً عن الناس فترة الحج حتى انتهى الموسم وعاد الحجاج وكان من جملتهم من جيراني فعندما التقيت بهم بعد عودتهم واذا بواحد يقول رأيتك في عرفات واحد يقول رأيتك في الطواف وانت مشغول بالعبادة وواحد يقول رأيتك في المشعر الحرام وانت تتضرع الى الله واكثر من هذا ان كل حاج يلقاني يقول تقبل الله حجك فأزداد عجبي ونمت تلك الليلة واذا بالمنام ارى رسول الله وهو يقول لا تعجب ان الله وكل ملكاً ينوب عنك في الحج هذه السنة وكل سنة الى يوم القيامة شئت تحج اولا تحج، هذا عبد الله بن المبارك وهذه لمحة عن شخصيته توفي رحمة الله عليه عام 181هـ والظاهر ان وفاته كانت بمدينة هيت بالعراق وقبره هناك اسأل الله له الرحمة والرضوان والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
*******