بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله حمد العارفين الشاكرين وأفضل الصلاة وأتم التسليم على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا وحبيبنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.. حضرات المستمعين الأفاضل سلام من الله عليكم ورحمة من لدنه تعالى وبركات وأهلاً ومرحباً بكم في هذه الحلقة من برنامجكم القرآني "نهج الحياة" حيث نواصل فيها تفسير آيات سورة الطور المباركة بدأً بالإستماع الى تلاوة الآيات الثانية والثلاثين حتى الرابعة والثلاثين منها فكونوا معنا وتابعونا مشكورين..
أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُم بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ{32} أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لَّا يُؤْمِنُونَ{33} فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ{34}
أيها الأكارم، يطرح الله سبحانه على الكافرين، في هذه الآيات والآيات اللاحقة، أربعة عشر سؤالاً، تهدف إلى سد أبواب العذر وإبطال الحجج الواهية التي يمكن أن يتسلّحوا بها، من أجل تبرير عدم إسلامهم. وربما لا يوجد في القرآن كله حالة أخرى فيها هذه الدرجة في الإنتقاد للكفار.
أما كلمة "أحلام" جمع "حِلم" أي العقل. وحيث كان يدعي سادة قريش المشركون رجاحة العقل والفهم، فإن القرآن يسألهم هل عقلهم هو الذي كشف لهم استناد القرآن إلى الكهانة، أم الطغيان هو الذي قادهم إلى مثل هذا الإستنتاج؟
أما كلمة "تقول" فهي بمعنى اخترع القول من نفسه، من دون استناد إلى مصدر ينقل عنه.
ومما نتعلمه من هذه الآيات المباركة أولاً: كل من يصر على كلامه من دون أن يكون كلامه مستنداً إلى حجة منطقية دامغة، هو إنسان طاغ.
ثانياً: يبرر المشركون شركهم، بإطلاق التهم والإفتراء.
ثالثاً: على الإنسان أن يرتكز في مواقفه الفكرية والعملية على العقل، أو على الوحي، والمشركون محرومون من كلا السبيلين.
ورابعاً: القرآن يتوفر على الحجة البالغة، فهو بكل بساطة يقول لهم، إذا كان النبي صلى الله عليه وآله تقوّل هذا القرآن واخترعه ونسبه الى الله، فافعلوا مثل ما فعل واتوا بمثل ما أتى.
إخوتنا الأكارم، في هذه اللحظات، ندعوكم للإستماع الى تلاوة الآيتين الخامسة والثلاثين والسادسة والثلاثين من سورة الطور المباركة..
أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ{35} أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ{36}
تشير هاتين الآيتين، أيها الأفاضل، الى أنه لا ينبغي أن تكون التهم مانعاً للداعي الى الله عن حمل مشعل الهداية وإنارة الطريق للضالين، فالله عزوجل يريد في هذه الآية إيقاظ ضمائر المشركين بطرح الأسئلة عليهم، علّ ذلك يوقظهم من غفلتهم.
كما يقدم القرآن الكريم أعقد المسائل الفلسفية، بلغة سلسلة سهلة الفهم، فالآية الأولى تطرح فرضيتين الأولى منهما أنهم خُلقوا من غير شيء، والثانية أنهم هم الذين خَلقوا أنفسهم، وكلتا الفرضيتين باطلة مستحيلة، فلا يمكن للعدم أن يفيض الوجود، ولا يمكن للإنسان أن يخلق نفسه، وهذا ما يعبر عنه الفلاسفة بالدور المستحيل؛ وهو توقف الشيء على نفسه.
ومما نستقيه من هاتين الآيتين الكريمتين أولاً: طرح الأسئلة بهدف إيقاظ الفطرة وإيحائها، من الأساليب القرآنية في مجال الحديث عن التوحيد.
ثانياً: علينا طرح الأسئلة بطريقة تدعو الى بعث الجواب من ضمير الإنسان.
وثالثاً: العناد، يدعو الإنسان إلى عدم الإيمان ويعيقه عن الوصول إلى اليقين حتى لو سدّت كل السبل في وجهه، وأُبطِلت حججه كلها.
أما الآن، إخوة الإيمان، ننصت وإياكم خاشعين الى تلاوة الآيات السابعة والثلاثين حتى التاسعة والثلاثين من سورة الطور المباركة..
أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ{37} أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ{38} أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ{39}
أيها الأحبة، تشير الآيات الى أن المشركين يؤمنون بخالقية الله عزوجل، ولكنهم ينكرون عليه ربوبيته التشريعية ولا يقبلون نبيه المرسل لهداية الناس. وهذه الآيات توبخ المشركين بصيغة طرح الأسئلة، وتقول لهم لماذا لا تؤمنون بالنبي؟ هل عندكم خزائن قدرة الله؟ أم عندكم سبيل إلى المساء تنالون عبره الوحي فتستغنون عن الهادي والمرشد؟
كما كان يعتقد أهل الجاهلية أن الملائكة إناث وأنهن بنات الله سبحانه وتعالى، ولذلك يؤنبهم الله في هذه الآيات، على هذه القسمة بينهم وبين الله، واختيارهم الذكور لهم وجعل البنات حصة الله سبحانه، وهذه قسمة غير عادلة، كما يقول سبحانه وتعالى في آية أخرى من سورة النجم المباركة (تلك إذا قسمة ضيزى).
ومما تعلمه إيانا هذه الآيات المباركة أولاً: في مواجهة العدو المختلف فكرياً علينا أن نلاحظ حتى الإستسلام بين يدي الحجج والبراهين، ومن هنا فإن القرآن يواجه بالأدلة، ليوضح للمشركين أن سبب شركهم هو الطغيان والعناد.
وثانياً: على الإنسان أن يسلم بالدليل، ولا يتجاهل البرهان والحجة حتى لو كانت حجة للخصم، فلا بد من الإستماع والتأمل في كلامه قبل الحكم عليه.
الى هنا، أيها الأفاضل، تنتهي حلقتنا هذه ضمن برنامج "نهج الحياة" فحتى لقاء آخر وتفسير ميسر آخر لآي الذكر الحكيم دمتم سالمين وفي أمان الله.