وصولاً إلى عودته إلى سوريا ومواجهته الاستعمار الفرنسي ومن ثمّ انتقاله إلى مدينة حيفا في فلسطين لمواجهة المحتلّين الصهاينة، حيث لا يزال الفلسطينيّون يخلّدون اسمه حتّى اليوم.
وعام 1988، وفي قرية جبلة في اللاذقيّة بسوريا، وُلدَ طفلٌ ارتبط اسمه في العالم بفلسطين أكثر من ارتباطه بسوريا. رغم كون والده سوريّاً، فإنّ جدّه كان عراقيّاً. وكان والده وجدّه في عداد أهالي العلم والأدب ومن العائلات المشهورة في سوريا والعراق. تلقّى عزّ الدين القسّام المعارف من والده الذي كان معلّماً لـ القرآن الكريم، وفي الرابعة عشرة، غادر المنزل مع شقيقه واتّجها إلى الأزهر الشريف في مصر لكي يتلقّيا الدروس الدينيّة.
وبعد ثمانية أعوام من الدرس وعقب التخرّج، عاد في 1906 إلى سوريا واللاذقيّة، ثمّ بدأ التدريس بعد جمع بعض التلاميذ. وبعد سماعه خبر محاولات إيطاليا استعمار ليبيا ومحاصرة طرابلس، شكّل مع تلامذته فرقة عسكريّة. فجمع المساعدات وبادر إلى تدريبهم وتقويتهم على المستوى العسكري، ثمّ اتّجه إلى ليبيا لكي يمدّ قائد الثوريّين في ليبيا، عمر المختار، بالعون والمساعدة في مواجهته المستعمرين الأوروبيّين.
وأثارت الخطوات التي أقدم الشيخ القسّام خلال مواجهة الاستعمار الإيطالي حساسيّة الفرنسيّين الذين كانوا في سوريا، وفي 1918، وبالتزامن مع احتلال الفرنسيّين السواحل السوريّة، شكّل مع تلاميذه «العصبة القساميّة» وقام على خطوات عسكريّة ضدّ الفرنسيّين جعلتهم في حالة من الذهول والاستغراب.
وجعَلَ كفاحه الفرنسيّين المستعمرين يضيقون ذرعاً. حتّى إنّهم اقترحوا عليه منحه منصباً ومكانة في اللاذقيّة في حال تخلّيه عن السّلاح. لكنّ الشيخ القسّام واجههم بالردّ القاطع والحاسم: «إنني لن أقعد عن القتال، أو سألقى الله شهيداً... إننا نستطيع أن ندير أنفسنا، وليس غيرنا أقدر منا على ذلك، إذ لدينا قوة لا يملكها الآخرون»، وأخرج المصحف من جيبه وقال: «هذه قوتنا».
وأدّت خطاباته التي وجّهها ضدّ الفرنسيّين إلى ذيوع صيته واشتهاره، وأيضاً حُكْمهم عليه غيابيّاً في إحدى المحاكم بالموت. بعدما اشتدّت الضغوط الفرنسيّة لإلقاء القبض عليه، قرّر التوجّه إلى حيفا.
والتجأ القسّام مع أسرته وبعض إخوانه إلى حيفا أواخر 1920، وعمل هناك مدرّساً في مدرسة «البرج» الثانوية التي أنشأتها «الجمعية الإسلامية» المسؤولة عن إدارة الأوقاف الإسلامية في حيفا، ثم صار يعطي دروساً دينية في جامع «الاستقلال» الذي شيّدته «الإسلامية» نفسها، لافتاً الأنظار بمواعظه. بعد سنوات قليلة، صار إماماً وخطيباً في الجامع نفسه، كما أنشأ مدرسة ليلية لمكافحة الأمية.
وتروي زوجة الشيخ القسّام لأحفادها حكايات النّضال ضدّ المستعمرين: «لم يكتفِ القسام بما ادّخره وشقيقه من مال لشراء السلاح، بل أوفده إلى جبلة حيث باع منزلهما». ثمّ تشير الجدّة إلى سوارين ذهبيين في يديها قائلة: «هذا ما تبقى لي من المصاغات التي ملأت يدي... لقد باعها المرحوم جدكم لشراء البنادق استعداداً للثورة».
ومع الازدياد في توافد اليهود المهاجرين إلى حيفا في العقد الثالث من القرن الميلادي السابق، حمل السلاح مجدّداً، لكنّ أساس قيامه كان من أجل دعوة النّاس انطلاقاً من المسجد. وبعدما حشد البريطانيّون الآليّات والدبّابات حول أحراش يعبد كانت مكبّرات الصّوت تصدح: «سلّم يا قسّام تسلم»، فكان يردّ بصوته الذي كان يجوب التلال ويردّده من بعده مئات الثوّار: «لن نستسلم، لن نستسلم».
وأعلن القسام الجهاد علنياً في تشرين الثاني/نوفمبر 1935 مضطراً، لأنه لم يكن قد أنهى استعداده العسكري بصورة كاملة، فاضطر إلى ذلك بسبب زيادة الهجرة اليهودية إلى فلسطين في هذا الوقت، واتساع رقعة الأراضي التي استولوا عليها، إذ دخل فلسطين عام 1935 ما يقارب 62 ألف يهودي.
وكان الأمر الأوّل الذي وجّهه معلناً به بدء القيام: «ليتوجه كلٌّ إلى أهله، يستودعهم الله، ويعاهدهم على اللقاء في الجنة، إن شاء الله». وفي 12/11/1935، اتّجه ليلاً مع أحد عشر من إخوانه من حيفا إلى أحراج قرية يعبد التابعة لمحافظة جنين، فكانت معركة غير متكافئة دامت ست ساعات مع القوات البريطانية في العشرين من الشهر نفسه، وقد استشهد الشيخ فيها مع أربعة من رجاله وجُرح وأُسر الآخرون.
وشهدت حيفا إضراباً شاملاً في 21/11/1935 بعد وصول خبر استشهاده، فأُغلقت الحوانيت والمتاجر والمطاعم، وودع الآلاف من سكانها القسّام ومن استشهد معه من أنصاره في أضخم جنازة عرفتها المدينة.
وعبّر أوّل رئيس وزراء للكيان الصهيوني، بن غوريون، الذي كان آنذاك من رؤساء المجموعات الصهيونيّة الإرهابيّة عن تأثّره الشديد باستشهاد القسّام، فقد كان يعتقد أنّ كلّ قائد من القادة العرب يضحّي بشعبه من أجل مصالحه الشخصيّة، لكن كان يرى للمرّة الأولى قائداً عربيّاً يبذل روحه في سبيل صون مبادئه وأسسه. وعليه، تضخّ هذه القضيّة في العرب قوّة كبيرة. كان بن غوريون يعتقد أنّ شهادة القسّام ستُدخل بريطانيا والحركة الصهيونيّة في مرحلة جديدة من الصراع مع العرب، مرحلة لن يكون فيها مهربٌ من تشكيل تحالف بين بريطانيا والكيان الصهيوني.
وكان توقّع بن غوريون في محلّه، فقد أشعلت شهادة القسّام شُعلة الثورة في فلسطين ضدّ بريطانيا بعد مرور سنة واحدة فقط، شعلة اتّقدت لدرجة أنّ الشّباب المناضلين في غزّة لا يزالون بعد عقود يختارون اسمه عنواناً لمجموعاتهم السريّة في قلب الأراضي المحتلّة.
وخُلّدت شعاراته في فلسطين وقلب المناضلين الفلسطينيّين إلى الأبد: «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم»، «كونوا أعزة كرماء»، «ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين»، «ولا إيمان لمن رضي بالخنوع، واستكان للظلم، واستعذب العبودية للبشر».
ويقول سماحة الإمام الخامنئي في كلمته التي ألقاها خلال انعقاد المؤتمر الأوّل لدعم الانتفاضة في فلسطين عام 2001: «في بدايات الاحتلال لفلسطين، استنصر علماء مجاهدون كالشيخ عزّ الدين القسّام والحاج أمين الحسيني المسلمين من أجل إنقاذ فلسطين، كما أصدر مرجعٌ دينيٌّ كبير هو المرحوم الشيخ محمّد حسين آل كاشف الغطاء حكم الجهاد ضدّ الصهاينة، لكن جرى - للأسف - إضعاف الشكل الإسلامي للمواجهات تدريجياً وإبراز الشكل القومي لها».