وهما قوله تعالى: {فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَر}[الكهف: 34]، وقوله أيضاً: {قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَ}[المجادلة: 1].
أمّا كلمة "الجدال"، فقد وردت في أكثر من آية:
ـــ {قَالُواْ يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا}[هود: 32].
ـــ {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ}[غافر: 5].
ـــ {وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ}[النساء: 107].
ـــ {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[العنكبوت: 46].
ـــ {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ}[الحجّ: 8].
حتَّى إنَّ الله تعالى جعلها صفة ملازمة للإنسان، فقال: {وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلا}[الكهف: 54].
وفي المصطلح اللّغويّ، أنّ هناك فارقاً بين معنى كلٍّ من الكلمتين:
فكلمة الحوار تتَّسع لكلِّ أساليب التخاطب، سواء كانت منطلقة من وضع لا يوحي بالخلاف أو يوحي به.
بينما كلمة "الجدال" تختزن في داخلها معنى الخلاف والشِّجار، وتحمل في عمقها أيضاً معنى التحدّي والصِّراع الذي يبتعد عن العدوانيّة والسادية، لذلك كان التصنيف المتوازن: جدال بالتي هي أحسن، وبغير الَّتي هي أحسن.
وعلى هذا الأساس، وباختصار، نقول: ربّما كانت كلمة الحوار تضفي جوّاً يلطّف من الخلاف، بينما الجدال يعبّر عن حركة الصِّراع والجدليّة؛ جدليّة الإنسان في حركة فكره وعاطفته، وفي مؤثّراته التي تجعله حركة دائمة بين السَّلب المتنوّع والإيجاب المتنوّع، بحيث يمكن لهذه الجدليَّة الداخليَّة أن تجعل الإنسان منفتحاً على كلِّ شيء حوله، وتحوّله ـــ في الوقت ذاته ـــ إلى كائن متغيّر ومغيّر، وهذا ما يعطيه معنى الحيويَّة والفعاليَّة في وجوده، بحيث لا يمكن لأحد أن يعلِّبه في علبة، أو يحبسه في قمقم أو زنزانة.
فالمخلوق الجدلي لا يمكن أنْ يتجمَّد أو يتحدَّد في إطار مغلق، لذلك، فإنَّ المسألة عنده ومعه هي مسألة فكر يتحدَّى فكراً، وحركة تتجاذب مع حركة.
وانطلاقاً من هذا، كان الإسلام واقعياً في أسلوب مواجهة هذه الجدليّة في الإنسان؛ جدليَّة العقل، وجدليّة الروح، وكان واقعياً أيضاً حينما أعطى للحوار شيئاً من المنهج، وشيئاً في حركة الواقع.
* من كتاب "في آفاق الحوار الإسلامي المسيحي".
السيد محمد حسين فضل الله