فهذه المعرفة تضيء طريق الإنسان في مسيرته نحو الكمال والسعادة المنشودة، كما تحفظه من أن يبيع نفسه بأبخس الأثمان وبذرائع واهيةٍ، فهي أسمى المعارف وأرقاها كما قال الإمام عليّ عليه السلام: "أفضَلُ المعرفَةِ مَعرفَةُ الإنسانِ نفسَهُ"([1]). كما قال: "نالَ الفَوزَ الأكبَرَ مَن ظفرَ بمعرفةِ النفسِ"([2]). وقال أيضاً: "أعظَمُ الجهلِ جهلُ الإنسانِ أمرَ نفسهِ"([3]).
والواقع أنّ سبب انحراف الإنسان هو غفلته عن حقيقة ذاته ومكانته العظيمة بين سائر المخلوقات وجهله بالهدف السامي الذي خُلق من أجله، ألا وهو بلوغ درجات الكمال عند مليكٍ مقتدرٍ. فالعبد الذي يزلّ عن طريق الصواب هو في الحقيقة منهمكٌ في بلوغ مآرب وأهداف عبثيّة بعيدةٍ كلّ البعد عن مسلك الكمال المنشود الذي يحققّ له السعادة الأبديّة، بل إنّها تحول دون بلوغه ذلك ويصبح تائهاً حائراً من حيث لا يشعر فيحاول أن ينال مبتغاه، لكن دون جدوى، حيث قال أمير المؤمنين علي عليه السلام: "عَجِبتُ لمـَن يُنشدُ ضالَّتَهُ وقدْ أضلَّ نفسَهُ فَلا يَطلُبُها"([4]). وقال أيضاً: "مَن لَم يَعرفْ نفسَهُ بَعُدَ عَن سُبُلِ النّجاةِ وخَبَطَ في الضّلالِ والجهالاتِ"([5]).
وعلى الرغم من أنّ الخوض في علم الوجود الإنسانيّ للتعرّف إلى خصائص ابن آدم وطاقاته الكامنة يحظى بأهميّةٍ بالغةٍ بين مختلف المدارس الفكريّة على مرّ العصور، إلا أنّها لم تتمكّن من إشباع رغباته على المستويَين العقائديّ والعمليّ، فأخفقت في طرح منهجٍ متكاملٍ ينسجم مع واقع حاله ويلبّي جميع طموحاته ومتطلّبات حياته، وذلك بالطبع يرجع إلى ضيق نطاقها الفكريّ وعدم إحاطتها بمكامن شخصيّة الإنسان.
فكلّ مدرسةٍ قد اكتفت بذكر بعض خصائص الإنسان وحقائق خلقته، ولم تتطرّق إليها كافّةً، لأنّها في الحقيقة لم تتمكّن من معرفة واقع الإنسان وبالتالي فشلت في السيطرة على جموح شخصيّته وتهذيبها رغم جهودها الحثيثة، فكانت نظريّاتها مبتورةً تشوبها تناقضاتٌ جذريّةٌ. لذا فإنّ كلّ مدرسةٍ باتت تنقض آراء الأُخرى لعدم إدراكها كُنه شخصيّة الإنسان وعجزها عن طرح نظريّةٍ معرفيّةٍ شاملةٍ بهذا الصدد، كما أنّها لم تطرح تفسيراً واضحاً لماضي الإنسان (مبدأ خلقته) ولمستقبله (معاده يوم القيامة)، واضطرّت لأن تتناول شخصيّته في إطارٍ ماديٍّ بحتٍ، فلم تتمكّن من تسخير طاقاته وتلبية أهدافه إلا في نطاق حياته الدنيويّة([6]).
أمّا المدرسة التوحيديّة، فلا يشوب نظريّاتها أيّ خللٍ أو نقصٍ، وذلك من مبدأ النظرة التوحيديّة التي تتمحور حول وحدانيّة الله تعالى خالق كلّ شيءٍ والمحيط به علماً. فهو العالم بمكامن شخصيّة الإنسان ومتطلّبات روحه وبدنه، لذلك فقد خطّ له سبيل هدايةٍ يلبّي كلّ رغباته ويحقّق آماله في الحياتين الدنيويّة والأخرويّة، وهذا السبيل لا يعتريه أيّ تناقضٍ مطلقاً، باطنيّاً كان أو ظاهريّاً، ولم يُجزّأ الإنسان إلى أبعاض مختلفةٍ كما فعلت المدارس الأخرى. ومن أهمّ النظريّات القرآنيّة التوحيديّة التي تُعدّ أساساً قويماً يرتكز عليه الإنسان في طريقه نحو الحقّ والهدى ذهنيّاً وعمليّاً، هي اعتباره أشرف المخلوقات وأعظم آيات الله تعالى.
فالصورة الصحيحة التي عرضها كتاب الله تعالى حول حقيقة الإنسان والأُسس التي وضعها لبلوغ غاياته ومقاصده النهائيّة وتأكيده على أنّه كائنٌ يتمتّع بخصالٍ ساميةٍ تفوق سائر المخلوقات، هي قواعد وأصول تحفظه من الضلال والانجرار وراء وساوس الشيطان وملذّات الدنيا الفانية، بل تجعله يسخّر غرائزه وجسمه الماديّ خدمةً لأهدافه النبيلة بكلّ اقتدارٍ، فيتّخذها سلّماً لبلوغ مبتغاه الحقيقيّ. لذلك فقد أمره الله عزّ وجلّ في كتابه الكريم بالبصيرة والتعقّل، حين قال: ﴿وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾([7]). كما أكّد سبحانه وتعالى على أنّ العبد لا يمكنه سلوك سبيل الهدى إلا إذا عرف نفسه وصانها من مسالك الضلال، فخاطب المؤمنين قائلاً: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾([8]).
ولو عرف الإنسان نفسه حقّ المعرفة، فسوف يعرف مبدأه ومعاده، أي خالقه الذي أنعم عليه بالوجود، كما قال الإمام عليّ عليه السلام: "مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ عَرَفَ رَبَّهُ"([9]).
فالإنسان هو أعظم آيات الله تعالى ومرآة الحقّ وأشبه المخلوقات به جلّ شأنه، وهو الذي نفخ الله فيه من روحه، لذا فإنّ معرفة ذاته هي في الحقيقة معرفة ذات الله، وقد أكّد عزّ وجلّ على هذه الحقيقة في كتابه المجيد في قوله: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾([10]).
وإذا عرف الإنسان حقيقة وجوده وكُنه ذاته، فلن يُسيطر أحدٌ على فؤاده ولن تخدعه النـزوات العبثيّة والآمال الكاذبة. قال سيّد الموحّدين عليّ عليه السلام: "مَن عرَفَ نفسَهُ لَم يُهِنْها بالفانياتِ"([11]).
---------------------------------------
*شبكة المعارف الإسلامية
([1]) محمّدى الرّيشهري، ميزان الحكمة، ج6، ص140.
([2]) المصدر السابق.
([3]) المصدر السابق، ص141.
([4]) عبد الواحد التميميّ الآمديّ، غرر الحِكم ودُرَر الكلِم، ص233.
([5]) محمّدي الرّيشهري، ميزان الحكمة، ص141.
([6]) للاطّلاع على تفاصيل أكثر، راجع كتاب (الإنسان الكامل) للشيهد مرتضى المطهّري، وكذلك كتاب (علم الوجود الإنسانيّ) للشيخ محمود رجبي، الذي تكفّل بنشره معهد الإمام الخميني للتعليم والأبحاث عام 1380ش الفصل الأول.
([7]) سورة الذاريات، الآية 21.
([8]) سورة المائدة، الآية 105.
([9]) محمّدي الرّيشهريّ، ميزان الحكمة، ص142.
([10]) سورة فصّلت، الآية 53.
([11]) محمّدي الرّيشهري، ميزان الحكمة، ص142.