لأنَّ التجارة ليست مسألة تتمحور في إطار الحصول على المال فقط، بل تكمن في تنمية العقل، وفي تقوية التجربةِ الإنسانيّة في الحياة العامة. كما أنّ قضية التجارة لا تتصل بما يحصل عليه الإنسان من المال في حاجاته فقط، بل بما يتحمَّل مسؤوليَّته في انتفاع الناس بحركة الاقتصاد، في تلبية حاجاتهم، والقيام بمشاريعهم العامَّة.
فقد ورد في الحديث عن الإمام جعفر الصَّادق (ع)، وقد سأله بعض أصحابه: "إني قد هممت أن أدع السّوق وفي يدي شيء"، فعندي مالٌ يجعلني لا أحتاج إلى أيّ نشاط تجاري ـ فأجابه الإمام (ع): "إذاً يسقط رأيك، ولا يُستعان بك على شيء"1، لأنّك إذا تركت السوق والتجارة، فإنَّ معنى ذلك أنَّ تجربتك ستتجمَّد في هذه المرحلة، كما تتجمَّد أيضاً ثروتك في ما عندك من مال، ولا ينتفع النَّاس منك لا في الحركة التجارية، ولا في إعانتهم في مشاريعهم.
وقد ورد في الحديث: "العبادة عشرة أجزاء، تسعة أجزاء في طلب الحلال"2، في إشارةٍ إلى التكسّب بالحلال. كما ورد في كثير من الأحاديث، اعتبار الإنسان "الكاسب حبيب الله"، واعتباره (كالمجاهد في سبيل الله).
وقد ورد في السيرة النبويَّة الشريفة، أنَّ النبيَّ (ص) كان جالساً بين أصحابه، ومرَّ شابٌّ قويّ البنية، مفتول العضلات، وهو يحمل فأساً، فقال الأصحاب - حسب الرواية - لو أنَّ هذا الشابَّ صرف هذه الطاقة في سبيل الله، أما كان ذلك أنفع له؟!
فأجابهم النبيّ (ص): "إنْ كانَ خَرَجَ يَسْعى عَلى ولَدِهِ صِغارًا فَهو في سَبِيلِ اللهِ، وإنْ كانَ خَرَجَ يَسْعى عَلى أبَوَيْنِ شَيْخَيْنِ كَبِيرَيْنِ فَهو في سَبِيلِ اللهِ، وإنْ كانَ خَرَجَ يَسْعى عَلى نَفْسِهِ يُعِفُّها فَهو في سَبِيلِ اللهِ، وإنْ كانَ خَرَجَ يَسْعى رِياءً ومُفاخَرَةً فَهو في سَبِيلِ الشَّيْطانِ"3.
وهكذا نلاحظ أنَّ الإسلام لا يريد للإنسان أن يبتعد عن طلب الرزق ليكون كَلًّا على الناس، فالله يبغض العبد البطَّال الذي يحاول أن يلقي ثقله وكلَّه على الناس، فقد أراد الله للناس أن ينشطوا في الحياة، كما في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}(الملك: 15)، وفي سورة الجمعة: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ الله وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(الجمعة: 10)، أي لا تقضوا في المسجد طوال وقتكم في الصَّلاة، بل إنَّ للصَّلاة وقتاً محدّداً، فإذا قُضيت، انتقلتُم إلى ميدان آخر للعبادة، وهو طلب الرزق من حلّه، لتسدّوا به احتياجاتكم، وتطوّروا به أوضاعكم والحياة.
* من كتاب "النَّدوة"، ج 16.
محمد حسين فضل الله
-------------------------------
[1]تهذيب الأحكام، الشّيخ الطّوسي، ج6، ص 329.
[2]بحار الأنوار، العلَّامة المجلسي، ج100، ص 9.
[3]الدرّ المنثور، جلال الدين السيوطي، ج2، ص 40.