{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لا تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ * هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ}(آل عمران: 118-120).
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لا تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً}. واجهوا الواقع بمنطق الواعين الَّذين يتحرّكون في علاقاتهم على أساس الوعي العميق لانتماءات أصحابهم، الَّذين تفرض عليهم الأوضاع العائليَّة والاجتماعيَّة صحبتهم والتَّعامل معهم، وأن يكون هناك دراسة شاملة لكلِّ منطلقاتهم والتزاماتهم وخلفياتهم الدينيّة والسياسيّة، لتكونوا حذرين في أحاديثكم معهم، فلا تطلعوهم على أسراركم وما إلى ذلك من قضايا المسلمين المصيرية، واحذروا مما يثيرونه من أجواء تؤثِّر سلباً في ساحاتكم.
فإنَّ اختلاف الانتماء - ولا سيَّما في حالات الصِّراع المرير - قد يؤدّي إلى الاختلاف في النيات والدوافع والمواقف، الأمر الَّذي قد يكون موضع استغلال للعلاقات الحميمة من قِبل أيّ طرف ضدَّ الطرف الآخر، للإساءة إلى فريقه لحساب الفريق الآخر.
{مِّن دُونِكُمْ}، هم أولئك الَّذين ينتمون إلى الدين الآخر أو الخطّ الآخر، ممن تخوضون معهم الصِّراع، أو أولئك الذين ينتمون ظاهرياً إلى الإسلام، ولكنَّهم يستبطنون الكفر، فلا تدخلوهم في الأجواء الخفية التي يتحرّك فيها الواقع الإسلامي الداخلي، ولا تفسحوا لهم في المجال ليكونوا في المواقع المتقدّمة من الساحة الإسلاميَّة في الوظائف، أو ما تجعلونه لهم من مواقع بفعل علاقاتكم الخاصَّة بهم.
{لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالا}، فهم قد يظهرون لكم المحبَّة بطريقة شخصيَّة، ولكنَّهم يخفون في أنفسهم العزيمة على الإيقاع بكم، والإضرار بمصالحكم، وإفساد أموركم، وتوجيه عقولكم في اتجاه الغفلة والجنون الفكري والشعوري والسياسي، لأنَّ الخطّة الموضوعة لديهم في مواجهة الإسلام، تفرض عليهم السَّير في هذا الاتجاه.
{وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ}، فهم يحبّون لكم الوقوع في المشقَّة والعناء في حربكم وسلمكم، فلا يريدون لكم الراحة في مشاريعكم الداخليَّة وفي أوضاعكم الخارجيَّة، ما يجعل الصَّداقة غير ذات موضوع لديهم أمام الشخصيَّة الاجتماعيَّة التي تفرض عليهم المحافظة على وجودهم وامتيازاتهم في هذا الجوّ الإسلامي الجديد الذي قد يُصادر بعض مصالحهم ويؤكِّد انتصاره عليهم، بحيث يؤدِّي إلى التعقيد في حالاتهم النفسيّة وأوضاعهم الخارجيّة.
{قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ}، من خلال ما يظهر من فلتات ألسنتهم المعبّرة - تلقائياً - عمّا يضمرونه، لأنَّه من الصَّعب على الإنسان - حتّى في حالات الحذر - إخفاء ما يضمره في نفسه، من خلال كلمة تنطلق هنا - من غير شعور - أو كلمة تقفز هناك، فتلك بعض دخائل النفس وغوامض الشّعور. وهذا ما أكَّده أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (ع) في قوله: "ما أضمر أحدٌ شيئاً إلَّا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه".
{وما تُخْفِي صُدُورُهُم أَكبَرُ}، من الحقد الدَّفين الكامن في نفوسهم، انطلاقاً من إحساسهم الذاتي الفئوي بأنَّكم قادمون لإلغاء مواقعهم المتقدّمة في امتدادهم الديني في ساحة الواقع، وتحطيم عنصريتهم المعقَّدة.
{قد بيَّنَّا لكم الآياتِ} بما أظهرناه لكم من الدّلالات الواضحة على الخطِّ الفاصل بين العدوّ والوليّ، سواء على مستوى الاختلاف في الانتماء الديني، أو في اهتزاز الحالات النفاقيَّة الشرّيرة، ما يفرض عليكم الأخذ بأسباب الحذر في علاقتكم بهم، والتحرّك من موقع الوعي في حركتكم معهم.
{إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ}، فتتحرّكون في أوضاعكم وعلاقاتكم من قاعدة العقل الباحث عن أسرار الأشياء، والغوص في بواطن الأمور، لتندفعوا إلى التحرّك في دائرة دفع الضَّرر وجلب النفع، لأنَّ الإنسان السائر على هدى العقل، لا يُخطئ طريقه غالباً، ولا يلقي بنفسه في مواقع الهلاك.
{هَآ أَنتُمْ أُوْلآء تُحِبُّونَهُمْ}، لأنَّ الله أرادكم - من خلال الإسلام المنفتح على النّاس كلّهم - أن تفتحوا قلوبكم بالمحبة للآخرين، لأنَّ المسلم هو الَّذي يتحرّك في حياته مع الآخرين، على أساس الإخلاص الباحث عن حركة الحقيقة في الوجدان العام، من مواقع التفكير والحوار، فهو يعمل على أن يهدي الآخر بالدّخول إلى قلبه من خلال الشّعور الطّاهر، ليدخل إلى عقله من خلال الجوِّ الملائم الذي لا يحمل في داخله أيّ حالة لرفض الآخر.
{وَلا يُحِبُّونَكُمْ} من خلال أنَّهم تحرّكوا - في تربيتهم - من قاعدة العنصريَّة التي توحي إليهم بأنَّهم هم الذين يملكون الدَّرجة العليا في الإنسانيَّة، وأنَّ الآخرين لا يمثّلون شيئاً في حساباتهم، إلَّا بما يمثّله العبد أمام سيِّده. هذا من جهةٍ، ومن جهةٍ أخرى، فإنَّهم لا يرون فيكم إلَّا الفئة المضادَّة لتطلّعاتهم ومخطّطاتهم، من أجل السيطرة على العالـم، ما يجعلهم لا يطيقون وجودكم بالذات، فكيف يمكن أن يحملوا لكم الحبّ؟!
{وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلّهِ}، لأنَّ القرآن جاء مصدِّقاً لما بين يديه من التوراة والإنجيل، وداعياً كلَّ أتباعه إلى الإيمان بالكتاب والرسول، بحسب المراحل، من دون تفريقٍ بين كتابٍ وكتاب، ورسول ورسول. أمَّا هم، فلا يؤمنون بكتابكم، لأنَّهم لا يؤمنون بأنَّ محمَّداً (ص) رسول الله، وأنَّ القرآن وحي من الله.
{وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّ}، لتؤمّنوا لهم، فتعتبروهم منكم، وتدخلوهم في عمق خصوصياتكم، فيطّلعوا على أسراركم التي تمنحهم الفرصة لاستغلالها في الإضرار بكم، وتعطيل خططكم المعتمدة على بعض الأمور السريَّة في مواجهة العدوّ.
{وَإِذَا خَلَوْا عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ}، في تعبير صارخ عن الحقد الدفين في نفوسهم، من خلال هذا الانتصار الكبير للدَّعوة الإسلاميَّة الذي أغلق أمامهم الكثير من الساحات التي كانوا يتحرّكون فيها، لتحقيق مصالحهم ومآربهم الخاصّة، من خلال علاقاتهم المدروسة مع أهلها.
{قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ}، فلن ينفعكم ذلك شيئاً في إنجاح ما تخطّطون له من الكيد للإسلام والمسلمين، ولن يضرّ المسلمين شيئاً، لأنّ الله يرعاهم في انتصاراتهم وفتوحاتهم وغلبتهم على الشرك كلّه، وليس أمركم خافياً على الله.
{إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}، فهو المطَّلع على أعماق عباده، وهو الَّذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصّدور.
{إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ}، فيحزنون عندما يرون ألطاف الله بكم، بما تفتحونه للإسلام من ساحات جديدة،
{وَإِن تُصِبْكُمْ سَيّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَ}، فإذا أصابكم العدوّ بسوء أو هزيمة، أو تعرّضتم لمشاكل داخلية أو فتن، فإنَّهم يظهرون الشماتة والفرح بذلك، ولكن ذلك كلّه لا يحقّق لهم أيّ غاية مما يريدون، ولا ينـزل بكم شرّاً، لأنَّهم لا يملكون لكم أيّ ضرر إلَّا بمشيئة الله.
{وَإِن تَصْبِرُوا}، على هذه المرحلة، انتظاراً لما أعدّ الله لكم من نصر يحتاج إلى بعض الجهد والوقت، {وَتَتَّقُو} بالالتزام بأوامره ونواهيه في حالة الحرب والسِّلم، والشدَّة والرخاء، {لا يضُّرُّكُمْ كَيْدُهُم شَيْئ}، لأنَّ الله هو الذي يملك النفع والضَّرر، فلا يحدث منهما شيء إلَّا بإذنـه، {إِنَّ الله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ}، فلا يغيب عنه شيء من أمرهم أو مخططاتهم، وهو القادر على دفع ذلك عنكم أيُّها المؤمنون الموحّدون.
إنَّ هذه الآيات تُعطينا مفهوماً إسلامياً للعمل في نطاق العلاقات الاجتماعية، وخلاصته، أنَّ على المؤمنين أن يدرسوا طبيعة المواقف الفكرية المبدئية التي يتخذها الآخرون تجاههم، وأن يعملوا على التمييز بين الخلافات الطارئة والخلافات المعقَّدة، وعلى التفريق بين الأشخاص الذين يعيشون الخلاف الفكري والعملي كمبدأ، وبين الذين يعيشونه كعقدةٍ، ويحضّهم على متابعة التّجربة في دراسة المشاعر الذاتيَّة التي تحكم تصرّف هؤلاء وتصرّف أولئك، ليحدّدوا - من خلال ذلك - مواقفهم ومواقعهم في السَّاحة العامَّة على المستوى الاجتماعي والسياسي والفكري، لئلَّا يقعوا تحت تأثير الأوضاع العاطفيَّة التي تتمثّل في البسمات المشرقة، والعيون اللَّامعة، والوجوه التي تتلوّن بحسب الألوان المتحرّكة، تبعاً للمزاج والشّعور والتخيّل، فيثقوا بمن ليس في مستوى الثقة، فيؤدّي ذلك إلى الوقوع في قبضة الكفر والضلال...
* من كتاب "النّدوة"، ج 16.
السيد محمد حسين فضل الله