قضية من قضايا الفكر المعاصر نحاول ان نلقي عليها نظرة في هذه الدقائق، انها قضية اثيرت في الكفر الاوربي والحياة الاوروبية بين العلم والدين، فما هي حقيقة هذه العلاقة وما هي جذور الموقف؟
منذ البداية لابد من الاشارة الى ان موقف الخلاف بين العلم والدين هي قضية غربية خاصة بالاوربيين وبموقفهم من الكنيسة وتفسيرات الدين، ثم نقلت هذه القضية الى افق الفكر الاسلامي نقلاً باطلاً وزائفاً بغير منهج حق ولا موضوعية صادقة، وموقف الاسلام من العلم شاخص معروف فليس في تاريخ الاسلام او الفكر الاسلامي ما يشير الى انه هناك مناهضة او مناقضة بين العلم والدين، ان علماء الغرب قد وجدوا في كتبهم المقدسة ما يتعارض مع كشوف العلم فأختلفوا اما القرآن الكريم وهو كتاب المسلمين المقدس فليس فيه ما يخالف او يتعارض مع اي رأي من اراء العلم بل ان كثيراً من المفاهيم العلمية الثابتة يوجد لها مدلول في القرآن الكريم.
ان الدين بمفهوم العقائد له مجاله واسلوبه في المعرفة، والعلم بمفهوم الكشف عن الطبيعة له مجاله واسلوبه، والاسلام يجمعهما معاً في كل متكامل دون تعارض حيث يقرر في منهج المعرفة انه يربط بين اسلوب العقل واسلوب القلب، والاسلام هو الذي دعا الى حرية البحث والصراحة والتفكير والتسامح الذهني وفي احضانه تكامل معنى الدين والعلم، والاسلام كما يقرر المثل الاعلى لقواعد الايمان يقرر المثل الاعلى لقواعد العلم، ويربط بين العلم والعمل ويقرر طلب البرهان والدليل ولا يقرر المفاهيم والافكار بمعزل عن العمل والتطبيق وانما يرى المفاهيم والافكار مقدمات دافعة لبناء حياة كاملة.
اجل ان العلم اليوم قد اصبح يسلم لوجود ما ليس قائماً امام الحس فقد ذهب عصر البديهيات وتغير واقع القواعد العلمية واصبح عصرنا عصر يقين واعتقاد بالقوة الخفية، ومن المنتظر ان يخطو العلم خطوات واسعة نحو دين الحق، ان الاساس الذي قامت عليه المذاهب العلمية في القرن التاسع عشر قد انهار، والعلماء الان اذا تكلموا عن الكون وعن الانسانية وعن الحياة يتفوهون بعبارات صوفية ان العلم ليس كل شيء من الوجود وان الدين وسيلة للسمو بالانسانية الى مرتبة ارفع.
واتسع نطاق التحقيق العلمي اليوم واخذ العلماء يعترفون بأن الحقيقة كامنة وراء المظاهر وان الكون ليس حقيقة في ذاته بل هو المظهر الوحيد للتعبير عن الحقيقة.
وفي الغرب يرى الباحثون ان النزاع السابق كما يقرر اميل بوترو لم يكن بين العلم والدين وانما بين الفلسفة والدين، ويقول بريجستون ان فصل الدين عن العلم هو فناء محتوم للاثنين معاً، ان الانسان لا يستطيع بعد الان الارتفاع فوق الارض ما لم يستند الى خالق جبار، ان الجوهر الاساس هو تحرير الانسان من كابوس المادة، وهذا التحرر من المادة يحتاج الى دين، وفي هذا السياق يقول بوترو ان المفكرين الغربيين يرون اليوم ان العلم والدين هما اساس الحياة الانسانية ويقررون عجز العلم عن حل المشاكل وان العلم مهما تقدم فهو محدود وبذلك لابد من الرجوع الى ما يسد الفراغ باللجوء الى الدين.
من اهم القضايا التي يثيرها العلم والفلسفة قضية العقل وفي الفكر الغربي صراع بين التجريب والعقل وبين العقليين والتجربيين، وفي العالم فلسفات تقوم على الوجدان والحدس والعاطفة وحدها في مقابل الدعوة الى العقلانية بيد ان الاسلام يحسم الموقف كله حين يقرر ان له منهجاً جامعاً بين العقل والقلب وبين الروح والمادة وانه لا سبيل الى اعلاء العقل وافراده ولا الى اعلاء الوجدان وحده، لقد اعتمد منهج العقلانية على العلم وعلى المحسوس وعلى الماديات وعلى كل ما يدخل في انابيب الاختبار، واغضى اغضاءاً تاماً عن عالم الغيب وماوراء الطبيعة وكل ما يتصل به من وحي ونبوة وعوامل كاملة تكمل العلم المحسوس والمعقول، وبذلك تجاهل الفكر الغربي جانباً كبيراً من المعرفة الحقيقية لا سبيل الى فهم الحياة فهماً صحيحاً بدون الاعتراف بها وتقديرها كبعد اساسي في المعرفة والاعتقاد والفهم.
الفكر الاسلامي يقوم على كمال النظرة وشمولها فالفكر عنده اداة من ادوات المعرفة لها مجالها وميدانها وطريقها الذي استطاعت ان تنطلق فيه وفي حدود هذه المقدرة استطاع ان يقدم الكثير، غير ان هناك ميادين عجز عن اقتحامها وهناك مناطق اكتشف ان قدرته لا تؤهله لاختراقها وهناك قضايا وجد انه قاصر عن الحكم فيها، هذا الجانب هو عالم الغيب الذي صوره الخالق سبحانه وتعالى في القرآن الكريم وامدنا بحقيقته عن طريق الوحي وامرنا ان نؤمن به، هذا الجانب يقبله العقل لكنه لا يقوى ان يبت فيه بحكم قاطع، لان اداة العقل غير مؤهلة لهذا الغرض اذ العقل ليس مستقلاً للاحاطة بجميع القضايا ولا كاشفاً للغطاء في جميع المعضلات ومن هنا يبدو خطر الدعوة الى تقديس العقل وتأليه العقل واعلاء العقل واعتباره سبيلاً وحيداً في البحث او مصدراً للحكم على الاشياء وهذه واحدة من الدعاوى العريضة التي يحمل لواءها الماديون ويهدفون بها الى هدم عالم كامل هو عالم الغيب او ماوراء الطبيعة.
والواقع ان العقل وحده لم يستطع ان يصل بالذي اعتمدوا عليه وحده الى معرفة كل الحقيقة وادى الى انحرافهم وزيفهم لانه اي العقل جزء من حقيقة كاملة لا تتم الا بأمور اخرى، وكذلك اخطأ الذين نحوا العقل نهائياً ومالوا الى الحدس او الوجدان وحده ومن هنا جاء اكتمال الرؤية الاسلامية للمعرفة جامعاً بين العقل والقلب بين عالم الغيب وعالم الشهادة.
لا شك ان العقل مجاله في ميدان العلوم والتجريب وافاق الكيمياء والتكنولوجيا وغيرها وكان له دوره الضخم الذي استطاع به المسلمون بناء المنهج التجريبي حين تخطوا المرحلة النظرية التي وقفت عندها دراسات ما قبل الاسلام، وقد كانت نظرية المعرفة الاسلامية الجامعة بين العقل والقلب مصدر النصر الذي حققه المسلمون حين وصلوا الى قاعدة لم يسبقهم اليها سابق، هي قاعدة جرب واحكم في مجال الطب والفلك والهندسة والكيمياء، من هنا سار العقل والقلب في الفكر الاسلامي في اطار واحد دون ان يقع بينهما الصدام الذي عرفه الفكر الغربي ودون ان تتمزق الجبهة الواحدة المتكاملة الى محورين منفصلين متصارعين على النحو الذي نراه في الفكر الغربي بين العلم والدين.
*******