يجري في الاوساط الثقافية والادبية الحديث عن الاصالة بأعتبارها حالة جديدة تحتاج الى موقف واضح ومحدد والواقع ان الاصالة في الفكر الاسلامي لها مفهوم يقوم على اساس الحركة الى المعاصرة دون افتقاد نقطة البدء ودون الانفصال عن المتابع والضوابط والاطر الثابتة التي هي عماد ذاتية المسلمين ومنطلقهم، والنظرة الى الاصالة هنا هي من خلال السمة الاسلامية المتكاملة القيم والموازنة بين القدرات المتحركة دائماً الى الامام مع صون الهوية والاطار الاصيل، ولا ريب ان اي انفصال بين المعاصرة والاصالة من شأنه ان يولد تمزقاً وانفصاماً في الشخصية المتماسكة وامامنا التجربة التركية التي خسرت الاصالة وحرمت في الوقت نفسه من الدخول في المعاصرة فكانت كالغراب الذي ضيع المشيتين.
المعاصرة تستهدف اعطاء المجتمعات قدراً من التحسن المادي والتقدم في اساليب المعيشة ولكن هذا لا يصح ان يكون مصدراً لتعريض النفس المسلمة الى الاضطراب والانحراف بأن يفرض عليها التخلف عن تكاملها او غض النظر عن اخلاقياتها التي يجب ان تظل تحكم حركاتها في العطاء والاخذ دوماً. الاصالة ليست وصايا على المعاصرة ولكنها حامية لها من محاذير الخطر الذي اجتاح الامم الغربية حين انفصلت عن المنابع واعطت نفسها حق التطور المطلق والاعتقاد بنسبية الاخلاق وتبرير الواقع العصري بما فيه من فساد وانحراف وتخلف انساني واضح، واذا كانت المجتمعات الغربية قد ضعفت امام تيارات الالحاد والاباحية العارمة ففقدت اصالتها ومقدرتها فأن المجتمعات المسلمة ما تزال تقاوم مستعينة بقيمها التي تمنح القدرة على الثبات في وجه هذه التيارات طالما يؤمن المسلمون بأنهم لا يقبلون الحضارة الحديثة الا كوسائل ومواد خام ولا يقبلون منها الا ما هو مشاع للبشرية من علم وتكنولوجيا ليصهروها في قوائم فكرهم وفي هذه الحالة تظل محاولات التغريب عاجزة عن احتواء المسلمين وتذويب هويتهم وكينونتهم الذاتية المتميزة الاصيلة.
اجل، ان الخطر الذي يواجه الاصالة في كثير من بلدان المسلمين انما يأتي من عجز نظم التعليم والقانون والثقافة، هذه النظم التي مازالت تستمد اصولها واتجاهاتها من افرازات الفكر الدخيل فتحول دون قيام الاجيال بتحمل مسؤوليتها عن طريق الثقة بهويتها الاصيلة وسماتها العميقة الاصيلة، ولقد قصد الاستكبار ان يفرض لغته وعاداته واسلوب تفكيره وحجب كثيراً من الصفات المميزة والسمات الاصيلة لهذه الامة، من هنا بدا في وقت ما اننا نفقد اصالتنا تدريجياً واننا نذوب في ثقافة غريبة عنا ولا نستطيع لها مساغاً، وما تزال النظم والاخطار الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتربوية تحمل ادران هذا الخطر الغربي.
ان من اخطر المحاذير ان نضحي بذاتيتنا العميقة ومقوماتنا الخاصة في سبيل الحصول على الشكل الغربي والتماس الغثاء الاجنبي ظناً انه سيحقق لنا ان نكون على قدم المساواة مع الغرب فأذا تحقق هذا فعلاً فاننا سوف نجد انفسنا عالة على هامش الحضارة لا قدرة لنا على ان نقدم فيها اضافة جديدة وسوف نصطبغ بصبغة باهتة لا تسمن ولا تغني من جوع، ونكون في نفس الوقت قد خسرنا اعظم ما نملك، ذاتيتنا واصالتنا وطابعنا الخاص الذي هو رأسمالنا الاصلي والذي نستطيع بالمحافظة عليه ان نحقق العصرية ومن الحضور الحضاري ما يجعلنا في صف الامم الحديثة دون ان ننصهر او نذوب في وجود غريب وعندها نستطيع ان نقدم للبشرية ما لدينا من قيم ومناهج ومن حلول للمشاكل البشرية هي اشد ما تكون حاجة اليه.
الاقتباس ضرورة بين الامم ومحيط الثقافات والنظم والمدنية، وهذا الاقتباس ينبغي ان يتم بأرادة كاملة وفي حالة من حالات الرشد التام مع الايمان العميق بالجذور والقيم الاساسية دون ان تفرض فرضاً او تلتزم تحت ضغط سياسي او استعماري او اية سيطرة من اي نوع، نعم ان قوام الاقتباس والمعرفة الكاملة بالفروق الواضحة والعميقة بين العقائد والمعارف وبين العلم والفلسفة وبين المدنية والثقافة وان تجري في اطار كيان الامة وشخصيتها ومزاجها وسماتها الاساسية ودون ان يتعرض اي مقوم من مقوماتها للخطر او الاختلاط او الاضطراب، ومن المعروف ان المسلمين قد تعرضوا للاقتباس وهم تحت ضغط النفوذ الاستعماري المعادي الذي جاء ليستهدف تحويل الامة عن قيمها واخراجها من مقوماتها وصهرها في بوتقة ما يسمونه العالمية والاممية مستهدفاً افقادها قدراتها وكيانها الخاص حتى تستسلم عن طريق الفكر للاحتواء وتقع في دائرة النفوذ الاجنبي.
ان ابرز محاذير الاقتباس فقدان المعاصرة وفقدان الاصالة ذلك ان المعطيات التي يراد اقتباسها من الفكر الاخر تختلف من حيث الزمن ومن حيث المكان ومن حيث العوامل التي دعت الى استعمالها، كذلك تختلف العقائد والقيم والاخلاق بين مجتمعين مختلفين ديناً ولغة وتقاليد، ومن هنا فأن عملية الاقتباس التي تمت في هذا القرن لن تكن عن ارادة حرة للمسلمين وانما فرضت فرضاً بتغيير انظمة التعليم والقانون والثقافة وانها لم تجد اجابةحقيقية لانها لم تكن الحل الحقيقي للموقف، عملية الاقتباس بجانبيها الغربي والماركسي قد منيت بالفشل ولم تستطع حل قضايا المجتمع الاسلامي بل عقدت الامور ونقلت هذا المجتمع الى حافة الازمة بل كانت من اسباب الهزائم المتتابعة ازاء الصهيونية والاستعمار لانها افقدت المجتمع ذاتيته في النظر الى الامور واحالته الى منهج آخر مادي صرف وتبدو روح القرب واعرافه واضحة من قوانين ونظم وتشريعات مجافية للاخلاق والتي تتجاهل الجزاء الاخروي ومنها اباحة الربا واباحة العلاقات الجنسية المحرمة ومنها صيرورة المال غاية بدل ان يكون وسيلة للحياة الطيبة الكريمة، بل لقد نشأت الليبرالية والماركسية معاً وانكشف المجتمع المسلم امام نفسه وتبين له انه لا يستطيع الانتصار الا بتأكيد ذاته واقامة منهجه الاسلامي الاصيل.
*******