من التحديات التي يواجهها الفكر الاسلامي هي الدعوات التي تتعالى بين وقت وآخر بأسم المعاصرة والتقدم والتفتح والحداثة، لتخدم التغريب والتبعية للغرب التي تريد ان تقضي على القيم الاخلاقية والانسانية التي بشر بها الانسان، الاصالة ليست تشبثاً بالماضي او تعصباً له وليست تقديساً للتاريخ لكل ما فيه ومن فيه لكنها ايمان بالقيم القرآنية الثابتة ومحافظة على كيان الامة وذاتيتها الاصيلة، والعصرية انما هي محاولة لفرض مباديء واهداف غربية تريد احتواء الفكر الاسلامي واخضاعه للواقع الغربي في قيمه ومذاهبه مع تجاهل واضح لما بين الفكر الاسلامي والفكر الغربي من تباين عميق في قضايا كثيرة، اما اذا كانت العصرية يراد بها دفع الاسلام والفكر الاسلامي الى الالتقاء بالمدنية العالمية والفكر البشري اخذاً وعطاءاً ورفضاً فهذا مما لم يتوقف في يوم من الايام، فقد كان الفكر الاسلامي دائماً فكراً مفتوحاً يمتلك قدرة الاخذ والعطاء بأختيار يتوافق مع مضامينه الاصيلة ومبادئه الاساسية التي لا تحول ولا تزول.
وقضية الاقتباس امر لا مفر منه في محيط الثقافات والنظم والمدنية، وهذا الاقتباس لابد ان يجري بأرادة واعية حرة تفهم ما تفعل وما تترك اي ضغط او اكراه، ولابد ان يقوم الاقتباس على معرفة كاملة للفوارق الواضحة والعميقة بين العقائد والمعارف وبين العلم والفلسفة وبين المدنية والثقافة وان تتم في اطار كيان الامة وشخصيتها ومزاجها وسماتها دون ان يصاب اي مقوم من مقوماتها بالخطر او العطب او الاضطراب. ان اهم شروط الاقتباس هو نقل الايجاب الصالح والتوسع في نقل العلم التكنولوجي مع التحفظ في نقل الثقافة والادب، ذلك ان العلم ليس ملكاً للغرب ولا للشرق لكن الثقافة والادب جزء منها هي ملك خالص لكل امة قيمها الاجتماعية والاخلاقية والمدنية وتلك هي المجالات التي تبرز فيها طبائع الامم والمعروف ان القيم الاساسية بالنسبة الى اية امة او اية ثقافة هي كالتربة للنبات وللجذور ذلك ان كل تربة لها مقوماتها التي تستطيع ان تستقبل حضانة نبات معين او بذرة بعينها في حين لا تقبل عشرات البذور الاخرى التي تموت.
في هذا الصدد الى رأي كاتب غربي اذ يقول، ان البشر والشعوب لا يقبلون من التأثيرات والعوامل الا ما كان ملائما للخلاصة الخاصة من عقليتهم، وسايراً لما فيها من حركة وتوثب وبعبارة موجزة لا يجوز ان يقتبس الناس من غيرهم ولا الشعوب من بعضها الا ما كان حياً في قرارة انفسهم متوثباً للوجود، واذا كان هذا هو مفهوم باحث غربي بالنسبة الى موقف الفكر الغربي من الاقتباس فلماذا يكون مفهوم الاقتباس عندنا عاقاً للفطرة خارجاً عن القوانين الطبيعية والاجتماعية التي تسلكها الامم، كان حقاً ان يكون مفهوم الاصالة التي عرفها الفكر الاسلامي حاضراً في وعينا يفرض علينا ان نرفض نظرية الخضوع التي ينادي بها دعاة التغريب والتي تقوم بقبول الحضارة الغربية بفكرها وخيرها وشرها ما يحمد منها وما يعاب.
امامنا تجربة اصيلة، هي تجربة المسلمين في القرن الرابع الهجري في الاقتباس والترجمة فقد اخذوا ما يتفق مع مقوماتهم الاصيلة وقيمهم الاساسية وردوا ما يختلفوا معها ولم يقف الامر عند هذا الحد بل انهم صهروا ما اقتبسوه في بوتقتهم وحولوه الى كيانهم فلم يغير من معالم شخصيتهم شيئاً انما اضاف قوة جديدة الى حياتهم، وكذلك فعل توماس الاكويني في مطلع نهضة الغرب حينما ترجمت اثار الفكر الاسلامي الى اللغات الاوروبية فأنه عمد الى غربلة اثار الفكر الاسلامي ولم يقبل منها الا ما يسيغه الفكر الغربي، وعندما ننظر نظرة موضوعية منصفة الى الذين يفرضون علينا الاقتباس غير المشروط نجد باحث كبيراً مثل هنري بوردو يقول لقومه لاشيء اقتل من تغلغل الافكار الاجنبية لان الغاية التي تصل اليها هذه الافكار انما هي جرح مواطن حسنا وشعورنا، فأذا اردنا ان تكون ثقافتنا نوعاً من النمو لا التشويه لجدنا ان نجعل هذه الثقافة عاجزة عن تغيير طبيعتنا وروح عنصرنا، من هنا يجب قبل كل شيء ان ندرس انفسنا فأذا وثقنا بأنفسنا بعد هذه الدراسة تمكنا من استخدام قلوبنا وافكارنا كما يستخدم القائد جيشه الامين الذي يرتفع عن الانضمام الى العدو فحينئذ نستطيع فتح العالم اي الاتصال بآداب الامم.
اجل، ان خطر الاقتباس والاستعارة يبدو واضحاً حين نرى امماً كبرى تخشى على انفسها منه وهي قد بلغت الذروة في التقدم والترقي وليس لها من محاذير الاستعمار وتحديات التغريب والغزو الثقافي التي تهدد المجتمعات المسلمة وتحاصرها، نعجب لان مثل هذه الامم حذرة ونعجب لاننا ونحن بين شقي الرحى وفي قلب خطر الصراع نستهين بالامر وننظر اليه ببساطة بل ربما عده البعض امراً لا اهمية له ولا يستوجب الحذر والاحتياط، في هذا السياق يقول جان بول سارتر، لو افترضنا ان شعباً اوربياً صغيراً اضطر ان يستعير من الايدولوجية الامريكية او الروسية شيئاً فهذا الشيء المستعار لن يبدل جوهره بعد الاستعارة الا بعملية هضم صحيحة وسليمة، ذلك لان اصولهم مستمدة من طبيعة الاقتصاد والوضع الاجتماعي والسياسي في امريكا او روسيا والمستعير حين يكون سطحي الثقافة لن يستطيع ان يبدل طبيعة هذا الوضع فيبقى الشيء المستعار في جوهره امريكياً او روسياً يفرض على ثقافة صغيرة لا قبل لها بتحويله او طبخه من جديد وذلك لاسباب متعلقة بطبيعة ضعفه السياسي والحاجة الاقتصادية والفقر الثقافي.
اذن هكذا ينظرون في الغرب الى الاقتباس في ساحة فكر واحد الاصل والمصدر بينما لا نقدر نحن محاذير الاقتباس ونحن من امة اخرى لها سماتها المتميزة وذاتيتها المتفردة ولا ريب ان التقليد ادنى درجة من الاصالة واضعف شخصية والمقلد لا يستطيع ان يكون ذلك الاجنبي ولا يستطيع ايضاً ان يعود الى اصله وينابيعه. من هنا تنسخ ذاته نسخاً تاماً وتضيع في اوهام الاممية والعالمية التي تنصهر فيها الامم الضعيفة بعد ان تساهل في مقوماتها واعراقها الخاصة. واخيراً فأن الاصالة تحتم علينا ان نواجه الاقتباس بحكمة بالغة وان يكون لنا موقف واضح من بقية القيم.
*******