بعد 6 أشهر من الأزمة الأوكرانية، قلبت المواجهة الأطلسية - الروسية الافتراضات الأساسية حول الاقتصاد الروسي لدى الغرب، الذي اعتقد أنَّ الرئيس فلاديمير بوتين بوتين سيجد نفسه مقيداً باقتصاد محلّي ضعيف، إلى حدّ أن الرئيس الأميركي الرئيس جو بايدن كان قد ذهب بعيداً في رهاناته (التي لم يجنِ منها سوى الخيبات والفشل) بقوله إنه "سيحول الروبل إلى ركام".
لكن ما حدث هو العكس. أثبتت توقعات الانهيار الاقتصادي الروسي أنها بعيدة كل البعد عن الواقع، فاليورو هو الذي انهار، وليس الروبل. المفارقة أن الغرب الأطلسي، وخصوصاً أوروبا، التي كان قادتها يمنّون النفس بمشاهدة الشعب الروسي وهو يخرج غاضباً ثائراً منتفضاً على بوتين وأركان نظامه، بسبب العقوبات الغربية غير المسبوقة التي فرضت عليه، ولكنهم وجدوا أنفسهم يتجرعون سمّ السياسات التي طبخوها لموسكو نتيجة النقص الكبير في إمدادات الغاز.
إنّ مخططاتهم لتدمير الاقتصاد الروسي، وبالتالي تجفيف كل المصادر والقنوات المالية التي تغذي الميزانية الروسية، لم تجدِ نفعاً. وما حدث كان العكس، إذ شهدت الدول الأوروبية ارتفاعاً كبيراً في أسعار الطاقة، وموجة تقنين لا مثيل لها على كل الصعد، وتوقف بعض الصناعات، وانتقل مشهد التظاهرات الغاضبة (التي كان مقررة في الساحة الحمراء) إلى العواصم الأوروبية التي وقفت حائرة محاوِلةً اجتراح الحلول، مع اقتراب فصل الشتاء الذي يتوقع أن يكون كارثياً على أوروبا.
أمام هذا المشهد، فإن السؤال البديهي الذي راود أذهان الملايين في العالم هو: ما السرّ وراء صمود الاقتصاد الروسي، على الرغم من الحصار والعقوبات التاريخية على موسكو؟ ومن هو المسؤول في الدولة الذي تمكّن من إدارة السياسات الاقتصادية والمالية الروسية التي أدت إلى هذه النتيجة بنجاح منقطع النظير؟ أما الجواب فهو: إنها إلفيرا نابيولينا التي استطاعت تجنيب روسيا الانهيار المالي والأزمة الاقتصادية، وبالتالي بقي سليماً معافى، وإن كان لا يخلو من بعض المصاعب، وهذا أمر طبيعي.
من هي إلفيرا نابيولينا؟
وُصفت نابيولينا بأنها أنيقة، ومستعدة دائماً بشكل جيد، ومدافعة عن قوى السوق (على الرغم من أنها نالت تعليمها الاقتصادي في الحقبة السوفياتية)، ومعجبة بالتاريخ والأوبرا.
ولدت المصرفية الأولى في روسيا في أوفا، وهي مدينة تقع على بعد أكثر من 700 ميل شرق موسكو، وتشتهر بالصناعات الثقيلة. درست في جامعة موسكو الحكومية، وهي واحدة من أعرق المدارس في البلاد، وتزوجت زميلاً اقتصادياً لها.
شقّت نابيولبنا طريقها من خلال اتحاد العلوم والصناعة في الاتحاد السوفياتي السابق وخليفته، أي الاتحاد الروسي للصناعيين ورجال الأعمال، ثم من خلال وزارة التنمية الاقتصادية والتجارة.
عملت في أحد المصارف لمدة عامين، ثم عادت إلى الوزارة عام 2000، بصفتها نائباً أول، بعدما أصبح فلاديمير بوتين رئيساً للوزراء عام 1999، الأمر الذي فتح لها الباب لتبقى قريبة من بوتين. وعندما أصبح الأخير رئيساً في وقت لاحق عام 2000، عيّن نابيولينا وزيرة للتنمية الاقتصادية والتجارة. ومع انتخابه رئيساً لولاية ثالثة، في عام 2012، أدخلها إلى الكرملين، وجعلها كبيرة مستشاريه للشؤون الاقتصادية. وفي العام التالي، عينها محافظاً للبنك المركزي لروسيا.
خلال فترة عملها كأكبر مصرفي روسي، تمكَّنت نابيولينا من صقل صورة تكنوقراطية محترفة بشدّة تحبّ الأوبرا، وقد أذهلت نظراءها الغربيين. كما سحرت أيضاً الكثير من الصحافيين الذين أحبّوا فكرة أنها عندما تظهر في الأماكن العامة تتحدث عن أفكارها المتعلقة بالاقتصاد.
سطع نجم نابيولينا في عالم محافظي المصارف المركزية، وبين التكنوقراط المكلفين بمراقبة الأسعار وإبقائها تحت السيطرة واستقرار الأنظمة المالية، من خلال اعتمادها السياسات التقليدية لإدارة اقتصاد جامح مرتبط غالباً بسعر النفط.
ويُسجل لها أنها للمرة الثانية، وفي أقلّ من عقد من الزمن، تقود الاقتصاد الروسي الذي يواجه تحديات جمّة. ففي العام 2014، وبعد عام واحد تقريباً من جلوسها على كرسي رئاسة البنك المركزي لروسيا، ولمواجهة انهيار الروبل وارتفاع معدلات التضخم، أجبرت نابيولينا المصرف المذكور على الدخول في العصر الحديث لصنع السياسات الاقتصادية عبر رفع أسعار الفائدة بشكل حاد.
أدَّت هذه الخطوة المحفوفة بالمخاطر السياسية إلى تباطؤ الاقتصاد وترويض الأسعار المرتفعة، وأكسبتها سمعة دولية كصانع قرار صعب. حازت نابيولينا إعجاب عالم المال والمصارف. ففي عام 2015، حصلت على لقب محافظ البنك المركزي من مجلة "Euromoney".
وعام 2018، دعاها صندوق النقد الدولي لإلقاء محاضرة ميشيل كامديسوس السنوية المرموقة. وفي العام ذاته، أفادت كريستين لاغارد، التي كانت آنذاك رئيسة صندوق النقد الدولي، بأنَّ نابيولينا يمكن أن تجعل "البنوك المركزية تغتني".
أشاد بها المجتمع المصرف العالمي، لاتخاذها موقفاً قوياً بشأن التضخم وخفض سعر الفائدة الأساسي إلى مستوى قياسي منخفض بلغ 2.18% في شباط/فبراير 2018، وأشادوا بها كذلك، لسماحها بتعويم الروبل عام 2014، بدلاً من التحكم في سعر الصرف، وهو ما فعله البنك المركزي الروسي في الماضي.
وتقديراً لمسيرتها المهنية الحافلة بالإنجازات، صدّق البرلمان الروسي في أواخر نيسان/أبريل الماضي على تولي نابيولينا (58 عاماً) منصب رئيس المصرف المركزي الروسي لمدة 5 سنوات أخرى بعدما رشحها بوتين لولاية ثالثة.
كيف نجحت نابيولينا في إدارة الأزمة المالية التي عصفت بروسيا عام 2014؟
في الواقع، حظيت نابيولينا بثقة استثنائية من الحكومة الروسية والرئيس بوتين. وقد استمدَّت هذه الثقة من خلال سياستها الداعمة للاقتصاد الروسي ضد العقوبات الغربية، وخصوصاً الأميركية الطويلة، والتي توّجت عام 2014 بقطع الولايات المتحدة العديد من الشركات الروسية الكبرى عن أسواقها المالية.
استطاعت نابيولينا تحويل الكارثة إلى فرصة في عام 2014، في أعقاب تعرض روسيا لصدمات اقتصادية مزدوجة: انهيار أسعار النفط - بسبب قفزة في الإنتاج الأميركي ورفض المملكة العربية السعودية خفض الإنتاج، ما أضعف عائدات النفط الروسية - والعقوبات الاقتصادية المفروضة بعد استعادة روسيا شبه جزيرة القرم.
في ذلك الوقت، تخلَّت نابيولينا عن السياسات التقليدية - مثل إنفاق كميات هائلة من احتياطيات العملات الأجنبية لدعم سعر الصرف - وحوَّلت تركيز البنك إلى إدارة التضخم، عبر رفعها أسعار الفائدة إلى 17%، والتي بقيت مرتفعة نسبياً لسنوات.
كانت هذه الخطوات بمنزلة إعادة تعديل مؤلمة، وخصوصاً أنَّ الاقتصاد الروسي انكمش لمدة عام ونصف عام، ولكن بحلول منتصف عام 2017، تمكَّنت من إدارة شيء كان يبدو بعيد المنال قبل بضع سنوات فقط، وعدّ معجزة اقتصادية، فقد انخفض معدل التضخم إلى أقل من 4%، وهو أدنى مستوى في حقبة ما بعد الاتحاد السوفياتي في البلاد.
دفعت نجاحاتها تلك إلى أن تصبح نموذجاً لمحافظ البنك المركزي الحديث، كما عبرّ لصحيفة "نيويورك تايمز" ريتشارد بورتس، أستاذ الاقتصاد في كلية لندن للأعمال، الذي شارك نابيولينا مراحل النقاش في المؤتمرات.
كيف حسّنت نابيولينا طريقة عمل المصرف المركزي الروسي؟
في الواقع، واصل البنك المركزي الروسي جهود التحديث تحت إشراف نابيولينا التي عملت على تحسين اتصالاتها من خلال جدولة القرارات السياسية الرئيسية، وتقديم إرشادات حول السياسة المالية والاقتصادية المتعبة في روسيا، والاجتماع مع المحللين الماليين والسياسيين، وإجراء مقابلات مع المراسلين لشرح كل خطوة تقوم بها وتخدم الاقتصاد الروسي.
من هنا، بات يعتبر هذا المصرف بمنزلة العقل الاقتصادي الرئيسي للبلاد، إذ يجتذب الاقتصاديين المرموقين من القطاع الخاص. ليس هذا فحسب، ففي مؤتمره السنوي في سان بطرسبرغ، اجتذب البنك المركزي الروسي خبراء الاقتصاد من مختلف أنحاء العالم. أما الأكثر أهمية، فهو أن نابيولينا حضرت التجمعات المالية الدولية، بما في ذلك الندوة السنوية لمجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي في جاكسون هول في وايومنغ، والاجتماعات المنتظمة لمحافظي البنوك المركزية التي عقدها بنك التسويات الدولية في بازل بسويسرا.
ماذا عن تنظيفها القطاع المصرفي الروسي؟
إلى جانب سجلّها الأبيض الناصع في السياسة النقدية، حظيت نابيولينا بالثناء لسعيها إلى القيام بعملية تنظيف شاملة للقطاع المصرفي الروسي. في السنوات الخمس الأولى من عملها في البنك، ألغت نحو 400 ترخيص مصرفي - أغلقت بشكل أساسي ثلث البنوك الروسية - في محاولة لإعدام المؤسسات الضعيفة التي كانت تجري ما وصفته بـ"المعاملات المشبوهة".
عُرفت نابيولينا بالشجاعة في الأوساط المالية والاقتصادية الروسية. وفي هذا السياق، قال سيرغي غورييف - الاقتصادي الروسي الذي غادر البلاد عام 2013 – الذي يعمل الآن أستاذاً في Science Po في باريس، لصحيفة "نيويورك تايمز" إن محاربة الفساد في القطاع المصرفي هي وظيفة الأشخاص الشجعان جداً.
ولفت غورييف، الذي قال إنه يعرفها منذ 15 عاماً، إلى أنه لم يتم التشكيك في نزاهة نابيولينا: "لم يُشتبه في تورطها بأي فساد قط".
ما الخطوات التي اتخذتها نابيولينا لحماية الاقتصاد الروسي بعد اندلاع المواجهة العسكرية بين موسكو وأوكرانيا؟
مع إطباق الغرب الأطلسي حصاره الخانق على موسكو، ألقي على عاتق نابيولينا مسؤولية توجيه الاقتصاد الروسي وحمايته من الوقوع في ركود عميق، والحفاظ على نظام بلادها المالي الذي تجهد أميركا لعزله عن معظم العالم.
يأتي هذا التحدي بعد سنوات أمضتها في تعزيز الدفاعات المالية لروسيا ضد العقوبات القوية التي تم فرضها رداً على العمليات العسكرية الروسية ضد أو أوكرانيا.
من هنا، قادت نابيولينا الانتعاش غير العادي للعملة الروسية التي فقدت ربع قيمتها في غضون أيام من بدء العلميات العسكرية في 24 شباط/فبراير الماضي، لكنها ما لبثت أن استعادت قوتها، بعدما اتخذ البنك المركزي إجراءات صارمة لمنع مبالغ كبيرة من الأموال من مغادرة البلاد، ووقف حالة الذعر في الأسواق، ووقف التهافت المحتمل على النظام المصرفي.
كما حوَّلت احتياطيات البنك التي نمت لتصل قيمتها إلى أكثر من 600 مليار دولار نحو الذهب واليورو والرنمينبي الصيني. علاوة على ذلك، وخلال فترة ولايتها، انخفضت حصة الدولارات في الاحتياطيات إلى نحو 11%، من أكثر من 40%، حسبما قالت نابيولينا للمشرعين في البرلمان الروسي في نيسان/أبريل الفائت: "حتى بعدما جمّدت العقوبات احتياطيات البنك في الخارج، فإنَّ البلاد لديها احتياطيات كافية من الذهب والرنمينبي".
أما أكثر إجراءاتها صرامة وأهمية، فكانت تدابير الحماية الأخرى التي وضعتها لمواجهة العقوبات، مثل إيجاد بديل لنظام "سويفت"، وهو نظام الرسائل المصرفية العالمي الذي تم تطويره في السنوات الأخيرة. ولهذا، قام البنك المركزي الروسي بتغيير البنية التحتية للمدفوعات لمعالجة معاملات بطاقات الائتمان في البلاد. لذلك، حتى خروج فيزا وماستركارد سيكون له تأثير ضئيل.
وبعد اندلاع العمليات العسكرية، وفي تدبير يهدف إلى احتواء العقوبات، زادت نابيولينا سعر الفائدة أكثر من الضعف إلى 20%، واستخدمت ضوابط رأس المال لتقييد تدفق الأموال إلى خارج البلاد بشدة، كذلك قامت بإغلاق تداول الأسهم في بورصة موسكو، وتخفيف اللوائح التنظيمية على البنوك، حتى لا يتم انتهازها للاقتراض. أوقفت هذه التدابير الذعر الأولي، وساعدت على انتعاش الروبل. اعتبرت نابيولينا الخطوات ضرورية لدعم الاستقرار المالي واستقرار الأسعار وحماية مدخرات المواطنين من الاستهلاك.
وفي 16 أيلول/سبتمبر الجاري، خفض البنك المركزي الروسي سعر الفائدة مجدداً بمقدار 50 نقطة أساس إلى 7.5% - جرى خفضها في نيسان/أبريل الماضي بنسبة 14% - على الرغم من تحذير نابيولينا من ارتفاع الضغوط التضخمية. ولهذا، قالت نابيولينا في بيان: "بهذا المستوى من السعر الرئيسي، نقدر أننا في منطقة السياسة النقدية المحايدة".
في المحصلة، رغم اعتراف العالم بقدراتها وكفاءاتها ونجاحاتها وإنجازاتها في المجال الصرفي، لم تسلم من العقوبات، وهو ما عكسه إعلان الحكومة الكندية بفرض عقوبات عليها في نيسان/أبريل الماضي، لكونها "شريكاً وثيقاً للنظام الروسي".
إضافة إلى ذلك، أطلقت العديد من الأخبار والشائعات عن نيتها الاستقالة من منصبها، وهو ما زعمته مجلة "بلومبيرغ نيوز" وصحيفة "وول ستريت جورنال" اللتان قالتا، نقلاً عن مصادر مجهولة، إنَّ نابيولينا حاولت الاستقالة بعد أزمة أو أوكرانيا ورفضها بوتين.
ومع أنَّ البنك المركزي الروسي نفى تلك التقارير، لكنَّ عارفيها يؤكدون أنها ستبقى في منصبها لأنّ التضخم سيخرج عن السيطرة، وسيتضرر المواطنون الروس بشكل أكبر في حال استقالت.