نشرف من نافذة ثقافية على لون من الثقافة الحديثة التي شاعت في القرن الحاضر، نتلمس جذورها وملامحها ونعنى بدوافعها وآثارها في الحياة الادبية والثقافية المعاصرة، تلكم هي قضية التحليل النفسي التي ارتبطت بأسم فرويد، فماذا نرى من خلال هذه النافذة؟
كان علم النفس قبل هذا القرن يبحث في الانسان وكأنه روح بلا جسد وكان يهمل دراسة الحيوان وبعض بني الانسان كالاطفال والبدائيين والشواذ وقد انصبت دراسته على الانسان كفرد منعزل، اما الآن فقد سيطرت علوم الوضعية كالطبيعة والكيمياء وعلم الحياة على علم النفس منذ اوآخر القرن الماضي واصبح يدرس الانسان كأنه مادة فقط، ثم انحرف عن اسلوب العلاج الى اسلوب التقرير فأصبح جبرياً يرى ان الانسان مسير من قبل جملة من العوامل واصبح عاجزاً عن ان يخلق المثل الاعلى لانه غر قادر على تثبيت قيم الاشياء، ثم لانه علم وضعي يسير في نطاق ضيق من التجارب لن يدعو علم النفس الى المجاهدة والسعي للتكامل بل دعا للاستجابة للاهواء والرغبات، انه لم يرفع الانسان امام نفسه الى الاستعلاء فوق الغرائز لكن دعاه الى الاستجابة لها، وبعد ظهور الفلسفة المادية اصبح هذا العلم احصائياً محضاً يتوقف عند تصوير الواقع ولا يتعرض للعلاج، وقد تحول عن طبيعة العلوم النفسية والاجتماعية في الدعوة الى ضبط النفس وحماية الانسان ومعارضته للشهوات المذلة فتحول الى الاسراف في الدعوة الى الاطلاق.
وهذه النقطة هي مفرق الطريق بين قيام مفهوم علم النفس على تقدير كامل للانسان روحاً وجسداً وبين تحول علم النفس الى المادية وسقوطه تحت سيطرة المدرسه المنكرة للدين اجمالاً.
لقد ظهرت مدرسة علم النفس الحديث ممثلة في ثلاثة هم فرويد وادلر ويونج الذين سرعان ما ظهرت عوامل الخلاف بينهم، ولا مر ما غدا الصيت للمفهوم الا بعد عن الفطرة والذي رده العالمان الآخران وهو مفهوم فرويد في اعلاء الجنس، وكان لاستسلام علم النفس الحديث للجبرية اثر بالغ في انبعاث روح الشك في العقائد والاديان ولانه علم تجريبي فقد عني بالحالات الشاذة وجعلها اساس البحث، من غير ان يقيم المعايير التي يستطيع المرء ان يتخذها لنفسه غاية، وعلماء النفس يصفون حالات الجماعة ونفسية الجماهير بما يحكمها من عقلية الرعاع وبما يشينها من العقل الباطن غير المفكر. وكان حقيق بكل ذلك ان يدفع بالعالم الى الشك وان يزعزع ايمان الناس في سمو المثل الاعلى فقد اصبح الفرد يرى نفسه غير ملوم لانه يتخذ من وجوده في الجماعة ذريعة للتبريء والتنصل عن المسؤولية.
وتقوم نظرية فرويد في النفس على عدة اصول، فما هي هذه الاصول؟
اولها: ان الحياة النفسية للانسان ليست حيوانية فحسب بل تنبع كلها من الجنس المسيطر على كل افعال الانسان.
وتقوم ثانياً: على ان غرائز الكائن البشري التي تحكمه وتسيطر على نشاطه وان الجانب المسمى بالروح مما لا وجود له على الاطلاق.
وان الدين والاخلاق ثالثاً: ليسا قيماً اصيلة في الحياة البشرية ولكنهما انبثاق جنسي.
ورابعها: ان القيم خرافة وهي نفاق العقل للنفس والمجتمع وان النفس كلها تفسر.
خامساً: من خلال الجنس، وان كل الحوافز الانسانية.
سادساً: انما ترد الى الجنس، ويرى فرويد بنظره الاعمى ان الانسان في جوهره حيوان كغيره من الحيوانات وان الانسان يولد جنسياً خالصاً، وان كل اعمال الطفل تعبير عن طاقة الجنس وان الطفل يعشق امه بدافع جنسي مما يجد الاب حائلاً بينهما فيكبت هذا العشق فتنشأ في نفسه عقده او ديب، والطفلة تعشق اباها بدافع الجنس فتكبت هذا العشق فتتولد في نفسها عقدة الكترا.
وهكذا يدخل فرويد الانسان في حظيرة الحيوانات ويثبت انه عبد لنزواته وان العقل الباطن هو المسيطر الفعال في توجيه الانسان وان غرائزه وميوله الفطرية هي الاساس لسلوكه في الحياة وهي التي تحكمه وتسيطر على نشاطه، ومن نظرية فرويد هذه ظهرت نظريات في الادب والفن والاخلاق وفي مقدمتها السوريالية والوجودية، بيد ان هذه النظرية لم تكن مقبولة منذ اللحظة الاولى بين علماء النفس وقد لقت معارضة شديدة وذلك بسبب معارضتها للفطرة والواقع وبسبب تغليب عنصر الجنس ورد كل الحوافز اليه.
وفيما يتصل بالمصادر فقد اعتمد فرويد على الاساطير القديمة وعدها حقائق علمية واعتمد كذلك على حالات المرضى الفردية واتخذ منها اسساً عامة للاسوياء ولهذا اشار المتخصصون الى ان عمل فرويد هو اقرب الى التكهن والتنبأ منه الى العلم وانه مخترع للفرضيات اكثر منه مجرباً لها، وانه يلقي بنظرياته واراءه دون ان يقدم لها البرهان العلمي والسند الواقعي وانه يفترض ثم يصدق ما يفترض ويبني عليه وكأنه حقيقة علمية ثابتة ومؤكدة، ثم ان ملاحظاته ترتبط بالمرضى على الاخص، ومن هنا يجب ان لا تعمم افتراضاته واستنتاجاته النابعة منها لتشمل الاشخاص الاسوياء، وبخاصة اولئك الذين وهبوا جهازاً عصبياً قوياً وسيطرة على انفسهم، كذلك اشار المتخصصون الى نقطة الضعف الاساسية في فرويد كعالم وهي انه اتخذ من دراسة نفسه وطفولته قاعدة للتعميم والوصول الى قوانين عامة وقد ترك فرويد من كتاباته عن نفسه وحياته ما يدل على انه كان يتخذ من تحليل احلامه وهواجسه ومشاكل صباه كيهودي في النمسا المتعصبة ضد اليهود قاعدة لكل تصميماته.
هذا وقد خالف فرويد في نظريته كل من ادلر ويونج واستيكر، يونج يعتقد ان اراء فرويد ذات جانب واحد وانها غير ناضجة وساذجة في كثير من المواضع ويقول ان الجنس ليس اساس الدوافع الانسانية بل هو دافع واحد من عدة دوافع وهو يرى ان الغريزة السائدة في الانسان هي الرغبة الملحة بالتفوق والسيادة، اما ادلر فقد دعا الى نبذ اهمية الغريزة الجنسية وارجع تكوين الشخصية ونشأة الامراض العصيبة الى مجرد الرغبة في القوة وحاجة الانسان الى التعويض عن اي نقص في كيانه ويقول ادلر، ان الدافع الجنسي ليست له هذه الاهمية الشاملة التي ينسبها اليه فرويد وان حافز توكيد الذات ولبس الجنس هو القوة الايجابية السائدة في الحياة، ويقرر ادلر ان الاضطرابات التي تعترض حياة الاطفال النفسية ترجع الى عدم شعورهم بالمحبة فيصبحون مصدر مشاكل كبيرة وكذلك اثبت يونج وماك دوغل ان العقل الباطن ما هو الا خرافة وقد نوقش فرويد في مسألة العقل الباطن وعقده اوديب فأنكرهما في آخر حياته.
*******