في سياق الفهم الحضاري للادب نتوجه في هذا اللقاء الى الادب العربي، نريد ان نقرأه هنا في اصوله وسماته ومسيرته المعاصرة، فما الذي نجده في هذا اللقاء؟ من المعروف ان خصائص الادب العربي الذي تميزه عن الاداب الاخرى في الشرق والغرب انما ترجع الى البيئة التي نشأ فيها والفكر الذي تشكل في اطاره والى التحديات التي واجهته في طريق مسيره الطويل. لقد نشأ الادب العربي في الجزيرة العربية منذ قرون عديدة سبقت الاسلام وصرفته مقومات رسالة التوحيد الاولى الحنيفية حين قام هذا المجتمع الجديد في قلب الجزيرة، بجوار بيت الله الحرام، تجمع بين جنوب الجزيرة وشمالها ووسطها وصهرها جميعاً في ذلكم البناء الذي اقامه الاسلام بعد بعثة رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) حفيد ابراهيم واسماعيل (عليهما السلام).
ومما لا خفاء فيه ان الاسلام هو الذي منح العرب كيانهم الاجتماعي، وان القرآن الكريم هو الذي صاغ لهم منهج الادب العربي، وقد كان قبل الاسلام شعر وادب واسواق وكان الشعر ديوان العرب ومجموعات من سجع الكهان، بيد ان صورة الادب في معالمه الاصيلة انما اتضحت بعد نزول القرآن الكريم الذي كان العامل الاعظم في بناء الادب وظهور فنونه وعلومه ومناهجه، وهو الذي اغنى اللغة العربية بالاساليب والمضامين، اعطاها القرآن الكريم كما اعطى الادب العربي هذا البيان المعجز الفائق الذي فهمه العرب واعجبوا به وعجزوا في نفس الوقت عن الاتيان بمثله.
والمهم ان نتذكر انه كان لميراث النبوة في اسماعيل جد العرب ولبقايا الحنيفية دين ابراهيم قيم خالطت النفس العربية وقامت على الاريحية والمروءة وان اصابها كثير من فساد عادات الثأر ووأد البنات والشرك وعبادة الاصنام والاستعلاء والتفحل، فلما جاء الاسلام حرر هذه النفس من جاهليتها وصاغ كثيراً من سماتها صياغة جديدة وحول اهداف الكرم وحماية الذمار والنجدة فأعطاها مفهوماً متجدداً هو مفهوم التوحيد الاصيل، وساق قدرتها على المجالدة والحمية ووجه ذلك كله الى هدف اسمى تحت لواء عقيدة التوحيد الخالصة، وبذلك محى درن الجاهلية وحرر قيمها التي كانت عماد القوة الكبرى التي انتفعت في الارض ترفع راية الاسلام.
كل هذه العوامل قد وهبت ادب اللغة العربية ذاتية خاصة وصاغته على نحو خاص يختلف به عن آداب الامم الاخرى، وظهرت فنون جديدة لم توجد في الاداب الاخرى وظهور تلك الفنون واختفاء تلك الاخرى منه لا ينقص من قدره مادام يصدر عن اعماق روحه الطبيعية ومقوماته الخالصة، من هنا لا يمكن ان يدرس هذا الادب في ضوء مناهج وضعت لاداب اخرى ذلك ان اساليب النقد والبحث انما توضع للاداب بعد ظهورها ولذلك فهي مستمدة منها وليس العكس.
الواقع ان مذاهب الادب التي يحاول النقاد محاكمة الادب العربي بها، هي في جملتها مذاهب غربية وضعت مسمياتها ومناهجها بعد قيام ظواهرها في الاداب الاوربية وهي في الحق ليست مذاهب بل هي مسميات عصور كالكلاسيكية والرومانسية وغيرهما، وهي تتصل في مجموعها بتاريخ الامم التي وضعت هذه المذاهب، فلماذا تنقل لتكون قوانين يخضع لها الادب العربي الذي يختلف من حيث تكوينه وسماته وتاريخه وبيئته ومظاهر حياته عن هذه الاداب؟ ان اختلاف المصادر والمنابع بين الادب العربي والاداب الغربية يجعل من العسير خضوع الادبين لمقاييس واحدة او لقوانين واحدة، والمعروف ان الآداب الغربية جميعاً تستمد مصادرها من الادب الهيليني والفلسفة اليونانية والحضارة الرومانية، فقد اتجه الادب الاوربي الحديث منذ اول ظهوره في عصر النهضة الى هذه المنابع وربط نفسه بها وجعلها اساساً ثابتاً لمختلف وجوه نظره ومفاهيمه وقيمه، كما اتخذ من النظريات التي قدمها ارسطو في الادب والنقد والشعر وغيره اساساً له.
ولا ريب ان الاسس التي يقوم عليها الادب العربي في مختلف فنونه وبيئاته يختلف اختلافاً واضحاً عن الاسس التي يقوم عليها الادب الغربي الذي استمد مصادره اساساً من القرآن الكريم والاسلام والقيم العربية الاصيلة التي تلاقت مع مفاهيم الاسلام وانصهرت بها. اجل ان الفكر الذي تشكل الادب العربي في اطاره انما هو القرآن الكريم واداته هي اللغة العربية ويقوم هذا الفكر على اساس التوحيد الخالص، فقاعدة الاسلام الازلية هي الاعتقاد بوجود الله الواحد الذي لا يتغير بتغير الزمان والمكان، ان الله تبارك وتعالى هو خالق الكون وهو الذي يمسك هذا النظام المترابط في كل لحظة بحيث لو تخلى عنه لحظة لتلاشى الكون وانتهى وهو القائم على كل نفس بما كسبت.
والانسان في الرؤية الاسلامية مستخلف في الارض وله طبيعته الجامعة بين الروح والجسد والعقل والقلب وله رغباته واشواقه الروحية وله ارادته ومسؤوليته، ولما كان القرآن الكريم هو المصدر الاصلي للفكر الاسلامي فهو اذن المثل الاعلى للادب العربي. ولا ريب ان تأثير القرآن الكريم في هذا الادب لا ينقطع لانه متصل بالاداء والمضمون معاً بحيث يستمد الادب العربي اصوله من الاسلام والقرآن، وفي مقدمتها الاصالة والصدق والوضوح والايمان والتفاؤل والاخلاقية والتكامل والالتزام والمسؤولية والحرية ذات الضوابط والقيم وترابط الفردية والاجتماعية والتوحيد والفطرة وقوامة الرجل وتكامل المعرفة والطابع الانساني العام.
من خلال دراسة الاصول التي اشتق الادب العربي منها وجوده، يظهر جلياً وجود الخلاف والتباين بين الادب العربي والاداب الغربية وخاصة في اربعة مواقع مهمة هي:
اولاً: تفسيرات العقائد.
ثانياً: طبيعة البلاد.
ثالثاً: موروثات الهيلينية والفكر اليوناني.
رابعاً: الآثار الخطيرة التي حققتها فكر سيطرة التلمودية على الفكر الغربي كله في العصر الحديث.
من هنا نجد الخلاف عميقاً في العقائد والثقافة ومناهج البحث والطبيعة النفسية والطبيعة الجغرافية جميعاً، ولهذا الخلاف ابعد الاثر في مفهوم الادبين ذلك ان ابرز طوابع الفكر الغربي والادب الغربي تبعاً لذلك هو تجزئة الامور لا تكاملها، هي تفهم شيئاً واحداً وترى الآخر عكسه او ضده، ويتصل بين الاشياء فصل العداوة او المخالفة او التعرض ولا تستطيع ان تقبل المصالحة او الانتقاء او التكامل على النحو الذي يمثل طبيعة واضحة للفكر الاسلامي، وحين يستمد الادب العربي مقوماته من التوحيد يستمد الادب الاوروبي مقوماته من اشياء كثيرة يكاد الدين الغربي ان يكون عنصراً فيها بيد ان ابرز المقومات التي يقوم عليها الادب الغربي عامة هي الوثنية الهيلنية والادب الجنسي الصريح، وهكذا تتجلى الفوارق الجوهرية بين الادب العربي وبين الاداب الغربية جميعاً مما سنصير اليه ان شاء الله في لقاء قادم من البرنامج.
*******