من اخطر القضايا التي اثارها منهج النقد الغربي الوافد مسألة الحرية والفن ومسألة الفن والاخلاق وقد استهدف دعاة التغريب احراك الادب العربي من قيمه ومضامينه التي تجعل الفن مرتبطاً بالاخلاق وتجعل الحرية ذات ضوابط وذلك بطرح نظرية عرفتها دوائر الادب الغربي، هي قضية الفن للفن او اطلاق حرية الفنان في التعبير، هذه النظرية كانت قد برزت في الادب الغربي بعد تحولات كثيرة وتحت ضغط عوامل مختلفة ابرزها اتصال الادب الغربي المعاصر بأصول الادب الاغريقي الوثني القائم على الكشف والعري والتحلل الكامل ثم رد الفعل ازاء الرهبانية الكنيسة الصارمة التي كانت تفرض العزلة ومعارضة الطبيعة الانسانية في قضايا الجنس والمرأة وثالث هذه العوامل الدوافع السياسية التي فرضتها الدعوات المستخفية المخربة ذات الاهداف الخطيرة في هدم الحضارة والاديان والتي كان لها اثرها في دفع نظريات فرويد وسارتر وغيرهما واعلان الجنس والاباحة.
كان طه حسين سباقاً الى هذه المذاهب والدعاية لها حين جمع في وقت واحد بين استخراج ما يمكن ان يطلق عليه صور الكشف والاباحة من حياة ابي نواس وبشار وحماد عجرد وزاوج بينها وبين ترجمة القصة الفرنسية الاباحية وقال في الدفاع عن ذلك ليس للادب ان يعطل عمله لان يسأل عن قواعد الاخلاق، وتابعه توفيق الحكيم لما قال: «ان الاجادة في تصوير الدمامة والرذيلة لا تقل فضلاً عن الاجادة في تصوير الحسن والفضيلة».
والواقع ان هذا المنحى الغريب لم يكن مما يتقبله الذوق الذي نشأ في ظلال الاسلام والقرآن، واذا احتج احد بما ورد في بعض دواوين الشعراء فقد عرف ان هذا لم يكن من الادب العربي الاصيل الذي ولده الاسلام بل كان من الانحراف الذي طرأ على هذا الادب بعد اتصاله بالثقافات الغريبة الدخيلة ايام حكم العباسيين.
اما الادب العربي في اصالته فقد امزج الحب العفيف والسمو على الشهوات واحترام كرامة المرأة وعظمة العرض والرجولة.
اجل، ان ما يذهب اليه الادب الغربي من تمجيد اللذة الجنسية ليس طارئاً عليه في الحقيقة ولكنه عودة للجذور القديمة في الادب اليوناني بعد ان حرره الاتصال بالادب العربي والفكر الاسلامي فترة، حين نشأت في اطواره مفاهيم الفروسية والحب العفيف الذي اذاعه شعراء التروبادور وغيرهم بيد ان الادب الغربي عاد مرة اخرى الى اصول قديمة في الروح اليونانية الاغريقية المؤمنة بالعري والكشف والاباحة وعبادة الجمال وعبادة القوة.
وما ظهر بعدئذ على يد اورانس وغيره الى ما كان متابعة الى ذلك الاستيحاء الذي قام به فرويد وغيره في تلك الجذور الاغريقية مما لا يضاد النفس الاوربية ولا يعارض المزاج النفسي الغربي بل مما يتصل به اساساً ويلتقي فيه بأعمق اعماقه. اما في الادب العربي الذي يستمد من قيم العفاف والاخلاق والنبل والمروءة فقد كان ذلك كله غريباً عليه ودخيلاً لمؤثرات خارجية طارئة سرعان ما لفظها وعاد الى مسلكه الاصيل.
وقد اشار اكثر من باحث الى ان اطلاق الفن والادب من قيود الاخلاق مما لا يتفق مع نهج الادب العربي وذاتيته، وهو مذهب تنزه عنه من اهل كل امة عظمائهم وحاربه من اهل كل فن زعماء الاصلاح فيه امثال كاريل ورسكن وماريل ارنولد، وقد اصاب العقاد حين قال ان الادب الذي يسمونه بالادب المكشوف ليس بالنهضة التقدمية التي تستحث لها خطوات الابناء والبنات وانما هي عارضة من عوارض الضعف التي تنم عن الحاجة الى التربية الرياضية الخلقية وتدل على ان الشاب مفتقر الى ضبط الارادة في الفتنة وليس مفتقراً الى اطلاق الارادة والاستباحة لما يباح ولما لا يباح. ويتساءل العقاد عن عملية التهافت على المثيرات ويجيب ان العلة هي التعويض الخاسر والعجز عن التعويض المفيد. فالانسان لا يطلب المثيرات الحسية الا لانه فقد القرار على عقيدة روحية او على فكرة مثالية او على ثقة خلقية، ومتى فقد هذا القرار دفعه الى ان يشغل نفسه بما يثير حسه وسوء يسأم المثيرات لا محالة لان المثيرات تفقد معناها ولا تغدو مثيرة ولا قابلة لتنبيه الحس، اذا استمر التنبيه يوماً بعد يوم وساعة بعد ساعة.
والولع بالمثيرات تعويد خاسر على العقيدة الروحية والفكرة المثالية والثقة الخلقية، لان هذه القيم الرفيعة تزود النفس بعوامل الحركة وعوامل السكون في وقت واحد، ولا تدعها فارغة لحظة من اللحظات، والعقيدة الروحية تزود الانسان ببواعث الحركة وحوافز العمل في ثقة وقوة وتزوده ببواعث العزاء عن الاخفاق والخيبة، وتوحي اليه بفضل الاخفاق والخيبة احياناً على النجاح اذا كان فيه ما يناقض عقيدته ويحمل على اهمالها والتفريط فيها.
وترى نازك الملائكة ان الاباحة والكشف لون من الادب الهدام، يتستر تحت اسم مذاهب فنية او دراسات علمية بأسم الرومانسية والوجودية وانها الوان من الادب شعره ونثره طابعها الانانية والانطواء على النفس، وانه بأسم الواقعية والتحليل النفسي ظهرت الوان من الادب ومن القصص خاصة تعرض خفايا العورات وتبرز كثيراً من الرذائل وبأسم التنفيس، وقد رد عبد المنعم خلافاً على ما اثاره توفيق الحكيم حول اطلاق حرية الفن فقال، ان الفن انما هو وسيلة للمصلحة لا للترف واطلاق عبقرية الخلق والتسييم والتشكيل والتلوين على هوى طليق غير منسجم مع الاتجاه العام في الطبيعة كلها.
ان الخطأ الذي يرتكبه اصحاب هذا الاتجاه المتحلل هو انهم ينسون الفارق التاريخي العظيم بيننا وبين الاوربيين ويحاولون ان يطبقوا على بيئتنا مقاييس الحياة الاوربية الحاضرة، غروراً منهم بالمدينة الصناعية الالية وغفلة منهم عن ان نقل المكان دائماً من حضارة الى اخرى هو اسهل واسرع من نقل السكان.
ان العقلية اللاتينية عقلية لم تحسن التتلمذ على الطبيعة في تقدير لباب الاشياء بل تشوبها حياة القشور المزوقة والثرثرة والجدليات والاستعراضات المسرحية والانطلاق وراء النوازع والشهوات والتحلل من قيود الاجتماع بحجة الحرية الفكرية، واخيراً فأن الصور الفنية المنحرفة تزلزل وتفسد عقلية ومشاعر الناس وايمانهم بقيمهم العليا وتأخذهم الى حياة اللذة والجنوح التي لا تحتمله الحياة العلمية ولا الحياة الانسانية السوية.
*******