في الكلام عن الادب العربي الحديث نلاحظ ان هذا الادب قد واجه عدداً من النظريات الوافدة في مجال النقد الادبي قدمها بعض الادباء في نطاق الدعوة الى تجديد الادب العربي، وقد خالفت هذه النظريات الغريبة المجتلبة منطلق الادب العربي وجذوره وعارضت ذاتيته الاسلامية الخالصة واصطدمت مع مزاجه النفسي والعقلي، من هنا راحت هذه النظريات تسقط الواحدة منها تلو الاخرى، ولم تجد مجالاً للعمل والنماء والتشكل مع الادب العربي، لماذا؟ لان هذه النظريات في اصولها قد انطلقت من سمات الاداب الاوروبية وذاتيتها وتشكلت وفق مضامين تلك الاداب واعتمدت اساساً على النظريات التي باءت في دائرة العلم الطبيعي ثم فرضت نفسها على الفلسفات والاداب وهي نظريات اعتبرت الانسان حيواناً خاضعاً لظروف البيئة خضوع مختلف الاشياء لها، وهذه ولاريب نظرية مادية خالصة لا تتفق وروح الادب العربي الذي يقوم على اساس ترابط واضح بين المادية والروحية وما بين العقل والقلب والتي تعتمد قاعدة التوحيد الاسلامي اساساً لمنطقها.
منهج النقد الادبي الحديث الذي فرضه بعض الادباء بعد الحرب العالمية الاولى على الادب العربي انما يقوم على اساس مادي صرف فهو مبني على اساس النظريات التي اخذت منهجها من نظرية داروين في التطور واصل الانسان، هذه النظرية التي قامت في دائرة العلم الطبيعي ثم نقلها الفيلسوف هربرت سبنسل الى مجال المجتمع وطبقها على مباديء الاخلاق ثم جاء برونبر الناقد الفرنسي فطبقها على الانواع الادبية.
هذا الى جوار ان المفاهيم التي اعتمد عليها دعاة المذهب الغربي في النقد الادبي انما اخذوها من برونبر هذا وهو لا يرى الا ان الانسان اثراً من آثار البيئة بمعناها الاجتماعي الواسع وانه لا يكاد يفترق عن النبات والحيوان في امتثال الحول وانعدام الارادة وبهذا ما فيه من انزال الانسان من موقع البطولة الى مكان الحيوان الذي يعيش تحت رحمة القوى المحيطة به، هذه النظريات نماها بعد ذلك الباحث الفرنسي دور كاين في مفاهيمه التي تلقاها عنه بعض الدارسين العرب في جامعة اسربون وجعلوا من هذا الخليط كله اساساً لنظرية في النقد الادبي التي جرى تطبيقها على المتبني وابن خلدون والمعري ثم جرى تطبيقها على الشعر الجاهلي وعلى ادب القرن الثاني للهجرة.
لقد غلب المذهب الاجتماعي على دراسات الادب والتاريخ وغلب المذهب المسيحي على دراسات التراجم والشعر، ومن هنا برزت تلك الاراء الغريبة التي تمسك بها بعض الادباء والتي لا تتفق من قريب ولا بعيد مع مفاهيم الفكر الاسلامي والثقافة الاسلامية لذلك قول طه حسين المتعسف من ان الدين نبت من الارض ولم ينزل من السماء وقوله ان العالم الحقيقي هو من ينظر الى الدين كما ينظر الى اللغة وكما ينظر الى اللباس من حيث ان هذه الاشياء كلها ظواهر اجتماعية تحدثها وجود الجماعة، والواقع ان قائل هذا الكلام يردد صيحة معروفة في الغرب على ايدي العلماء اليهود تلاميذ بروتوكولات صهيون وان العلم الذي يشير اليه ليس هو العلم بمعناه الحقيقي بل هو الفلسفة المادية ومدرسة العلوم الاجتماعية والتحليل النفسي، وكلها تقوم على مصدر مادي خالص ولا تعترف بالانسان على انه روح ومادة، ولا ريب ان هذه الاراء واحدة وان الدكتور طه حسين لم يبتكرها ولم يصل اليها بعد بحث لكنه تلقنها من دوركاين وغيره من الكتاب الغربيين الذين ارادوا ان يتحركوا بمفاهيمهم هذه من خلال الفكر الغربي والفلسفة المثالية التي كانت سائدة الى الفلسفة المادية الخالصة.
اما الادب العربي والفكر الاسلامي فليس له مع هذه القضية او مع هذه الازمة اية صلة فمن الظلم الصريح ان ينقل مجال المعركة الى الادب العربي بغير ما حاجة اليه بها الا حاجة واحدة في نفوس المستشرقين والمبشرين وتلامذتهم هي محاولة تغريب الادب العربي وعزله عن ذاتيته الخاصة وفي نفس مجال الادعاء بأن هناك صراعاً بين الدين والعلم فأن الامر يبدو مظللاً فليس بين العلم والدين خصومة حقيقية فضلاً عن انه ليس بين الاسلام والعلم خصومة ما والنظريات العلمية لم تثبت اي تناقض بين العلم والدين.
كثيراً من الباحثين تعارضوا وهذا المنهج الوافد في نقد الادب العربي وذلك ان المنهج العلمي في البحث الذي ينقد به طه حسين الادب العربي لا يصلح استخدامه الا في مجال الوقائع العلمية كالقضايا الكيميائية والطبيعة وما اليها، فلا يدخل في مجال الوقائع العلمية معارك الشعوب ولا يستطيع العلم ان يستقل بالبحث في هذا الموضوع لانه ادخل في مجال الرأي، ويعول طه حسين على المنهج الاجتماعي الذي ينظر الى الانسان بأعتباره حيواناً اجتماعياً، ومن هنا يستند الى دراسة البيئة والعصر ولا يدرس البواعث النفسية للاديب التي تخفره الى نوع من السلوك دون آخر.
ان العلم ميدانه العقل وهو لا وطن له ولا قومية كما ان العقل لا قومية له ولا وطن فقوانين التفكير واحدة وسبل العقل واحدة وليس الادب كذلك فبينما انت في العلم لا تجد علماً المانياً ولا علماً فرنسياً ولكن تجد علماً واحداً ولكن تجد الادب متعدداً بتعدد الامم فلكل امة ادب كما لكل امة لغتها وتجد ادب كل امة مطبوعاً بطابعها على نحو بين لا خفاء فيه او هكذا هو اذا استقلت الامة بأدبها ونسجت لنفسها ثوباً من روحها وتاريخها وتقاليدها وعاداتها ودينها بدلاً من ان تلتف بثياب غيرها لا تجد فيها دفئاً ولا قوة ولا جمالاً.
ان المذهب في النقد الادبي قد لقي معارضة تستمد قوتها من معارضته للذوق العربي ومضاداته لذاتية الادب العربي التي تعتبر الانسان سيد الكائنات وتعلي من قدر روحه وعقله ووجدانه وتحاكمه الى مقاييس تختلف تماماً عن المقاييس المادية التي تراه حيواناً او خاضعاً الى الجنس، وقد سقطت نظرية خضوع الادب للمذهب الاجتماعي والمذهب النفسي على السواء وتبين فساد الرأي الذي اعلنه طه حسين في العشرينات من هذا القرن حين قال انه يريد ان يدرس الادب كما يدرس صاحب العلم الطبيعي علم الحيوان وعلم النبات.
وهناك خلاف ايضاً عميق عن اخلاقية الادب فقد كان ابرز ما دعا اليه المذهب الغربي في الادب هو تحرير الادب من طابع الاخلاق ودفعه الى تصوير الغرائز والاهواء من دونما قيد وذلك بأسم حرية الادب التي اطلق عليها مصطلح الفن للفن والواقع ان حرية الادب لا جدال فيها لكن الخطأ في قصرها على عاطفة دون عاطفة او وجدان دون وجدان فضلاً عن عاطفة الهوى والشك والمجون ومن الخطأ ان يقال ان الاخلاق من موضوعات الحياة الجاهدة وانما شأنها شأن الفن، وليدة التجربة العميقة والخبرات الانسانية الطويلة التي تبلغ به الى ادراك الحكمة في الحياة.
*******