ابحاث عديدة حول منزلة الادب العربي بين الاداب العالمية ودور هذا الادب في العطاء والاقتباس وقد حاولت مدرسة التغريب واتباع النقد الغربي ان تصور هذه المنزلة بما يوهم بأنه تابع للاداب الشرقية او الغربية، وقد ظل الدكتور طه حسين فترة طويلة يوحي برد مقومات الادب العربي الى اصول فارسية وبعد ذلك يقدم الادب اليوناني على الادب العربي وينسب كثيراً من مقوماته الى الاغريق، وقال: «واذا لم يكن بدٌ من مناظر ينحني امامه بعض الشيء فأنما هو الادب اليوناني» وهي عبارة اقل ما توصف به بأنها ذليلة لا يقولها من له فهم بالادب العربي والاسلامي.
والواقع ان هذه دعوة غالى بها طه حسين واسرف، حتى لم يعد احد من الباحثين يصدقه فيها ولا يرى انه يصدر عن علم يقيني او سند علمي، وقد تمت كل اراء الدكتور طه واتجاهاته على ان صاحب ولاء للادب الغربي وان هذا الولاء مرتبط ارتباطاً قوياً بالادب اليوناني ولا ينكر طه حسين الاثر الفارسي ولكنه يرى مع بعض المستشرقين الذين لهم رأي في ذلك ان التأثير اليوناني اقوى وان العقل الفارسي تأثر ايضاً بالثقافة اليونانية الى حد ان ابن المقفع كان عظيم الحظ من الثقافة اليونانية.
وقد واجه الدكتور زكي مبارك هذا الرأي ورده، وذكر ان الادب العربي قد سكت عنه الاوربيون عامدين لانه يمثل الحضارة الاسلامية، وهي حضارة كانت اوروبا تبغي هدمها منذ ازمان. ولاته من جهة ثانية مصبوب في اكثر موضوعاته بصبغة الجد الرصين، واوروبا فتنت بالادب اليوناني من طيش وخلاعة ومجون، ثم ان الادب العربي يميل الى الايجاز في اكثر ضروب البيان في حين كان الادب اليوناني والاوروبي يتسم بالميل الى التطوير والتفصيل.
واذا كان مجال المقارنة هو المعنى الانساني فقد كان الادب العربي اكثر غنى في هذا المجال واكثر عطاءاً واذا قيل ان الادب اليوناني قد عرف القصة والملحمة والمسرح، ولم يعرفها الادب العربي فأن هذا ليس حجة يعلو بها ادب على ادب وانما ذلك لون من الوان التعبير خلقته ظروف البيئة وعواملها من عقائد اليونان.
ولم يجد الادب العربي حاجة الى هذا اللون فقد اتاحت له سماءه المفتوحة المشرقة بضوء الشمس بالنهار وبالنجوم بالليل وبطبيعة الفارس المحارب الصريح القوي ان لا يحتاج الى ادب رمزي وضلال، كما ان طبيعته الصريحة الموجزة قد حالت دون وجود هذه الالوان المعقدة من الاساطير والخرافات.
وغير هذا وذاك فأن الادب العربي مطبوع بطابع خاص يميزه عن الاداب الاخرى هو طابع التوحيد وهو بعيد الاثر في تشكيل الادب وفي تحرير الفكر من الوثنيات وعبادة الملوك او عبادة الجسد او عبادة القوة وهي التي منحت الادب العربي عن طريق القرآن الكريم سمات متميزة من الوضوح والايجاز والصراحة، ووهبته تلك الذاتية الخاصة التي اتسم بها واختلف بها ايضاً عن مختلف الاداب العالمية في عصره، فلم يكن بحاجة الى فنون الخفاء والرمز او الى المبالغة والتهويل او الى الصور الاستعراضية او الى الاطالة والاسهاب وهي الفنون التي عرفت بها الاداب اليونانية وغيرها من ملاحم ومسرح وقصة وغيرها.
ويمكن القول ان طابع التوحيد قد اضفى على الطابع الانساني قوة وحيوية وجعله اكثر صلابة وعمق، وان الطابع الانساني في اي ادب لا يمكن ان يكون في غير ظل التوحيد، قادراً على التوحيد، قادراً على العطاء والنماء، على النحو الذي يستطيعه في ظل ادب التوحيد.
في ضوء هذا التفكير، نجد ان دراسات الادب المقارن التي عني بها بعض الباحثين لم تستوعب هذا الفارق العظيم، ومن هنا جاءت محاولاتها غير مستوعبة فعلى الرغم من تنبه الباحثين الى مواضع الخلاف بين الادب العربي من ناحية والاداب العالمية من ناحية اخرى، فقد اولوا اهتمامهم الى جوانب اللقاء جرياً على القول ان الادب العربي لا يختلف في مجال التشابه والالتقاء مع هذه الاداب.
ومن الحق ان الادب العربي بحاجة لمن يعالجه بقوة ويكشف عن تميزه وتفرده، ويرسم صور تفوقه من خلال مزاجه وتركيبه الذي صوره القرآن الكريم والذي كان للتوحيد ابرز الاثر في تحديد الخلاف الواضح بينه وبين اغلب الاداب العالمية التي تكاد تكون كلها من ارومة واحدة، قوامها اللغة اللاتينية والفلسفة اليونانية وعقائد الحضارة الرومانية القديمة في اعلاء الجنس الابيض على الاجناس واعتبار اهل روما سادة وما وراءها عبيد، وهو المعنى الواضح من خلال فلسفات افلاطون وارسطو على الرغم من اختلافهما وانقسامهما بين الفردية والجماعية.
ولا ريب ان الادب الغربي كله والادب الماركسي ايضاً اذا ما يصدر عن الجذور الاساسية في الفلسفة اليونانية والادب الاغريقي ويستمد قواعده من القواعد التي قعدها ارسطو للمنطق والشعر والمحاكاة مع تعديل وتحوير لا يخرجان عن الجذور الاصلية، من هنا فأن اوجه اللقاء بين الاداب الفرنسية والانجليزية والالمانية والايطالية تتقارب بسبب المصدر الواحد من اللغة اللاتينية والتأثرات التاريخية عبر اللاتينية والغريقية والمسيحية.
ومع ذلك كله يبدو بوضوح ذلك اللون القومي في ادب كل امة من هذه الاداب، فما ظنك مستمعي الكريم بالادب العربي الذي خرج من ارومة اخرى لا يجمعها بالادب الغربي الحديث ولا بالفلسفة الاغريقية او الادب الروماني صلة جارية.
فاللغة العربية لا يربطها باللغة اليونانية اي اهل قديم وكذلك الفلسفة والادب والعقائد.
ومن هنا يبدو ذلك الفارق الكبير والواسع والعميق من الخلاف في الاصول والفروع جميعاً.
صحيح ان الاداب تؤثر وتتأثر، وتقتبس وتنقل وتترجم ولكنها لا تتقبل من ذلك الا ما تستطيع استساغته وهضمه، وما هو متفق مع طبيعتها ومزاجها النفسي.
وكل محاولة لفرض ادب على ادب او ذوق على ذوق انما هي محاولة فاشلة وان بدت في مرحلة من المراحل انها قد لقيت استحساناً وقبولاً، ذلك لان الاداب الاصيلة بطبيعتها لا تعق فطرتها ولا تخرج عن ذاتها ولا يكون من السهل تزييفها وتبديل جوهرها بأضافة قيم او مفاهيم او ملامح مخالفة او معارضة او مضادة لطبيعتها.
*******