من موضوع التغريب الذي اريد له ان يغزو الأدب العربي سعى دعاة الاتجاهات النقدية الغربية الى ادانة العرب من زاوية معينة، هذه الزاوية هي خلو هذا الأدب من المسرح والدراما الشائعة في الأدب الغربي، هذه النظرة تريد ان تفرض أمّة لها سماتها وفكرها على أمّة اخرى لها مزاياها الخاصة ومكوناتها الفكرية والروحية المستقلة وهذا نوع من الجور والظلم ولا ريب، لقد نشأ المسرح الغربي نشأ يونانياً وارتبط بالاسطورة الوثنية وبالصراع مع الآلهة مما كان الأدب العربي حتى في جاهليته مبريء منه ومنزهاً عن لوثته، فالوثنية العربية لم تكن وثنية اصيلة بل كانت صورة مشوهة من دين قائم على التوحيد في ذلك لم يكن لها جذور عميقة او تقاليد قديمة كما هو حال الوثنيات الأخرى وقد استعانت الكنيسة في القرن العاشر بالمسرح ايضاً في بيان فكرتها فكانت تقدم القداس الديني ثم تبعثه في تمثيلية طقوسية صغيره يمثلها القساوسة وكان المسرح اداة لتفسير نظريات المسيحية الفلسفية التي لم يتيسر فهمها إلا على هذه الشاكلة.
ان نهاية القصص وخاتمة التراجيديات في نظر الادب اليوناني ينبغي ان تكون شريرة وهذا ينطلق من الفكرة الغربية التي ترى ان الانسان إنما هو ثمرة الخطيئة أي خطيئة آدم وان حياة الانسان ومساعيه انما هي للتكفير عن هذه الخطيئة التي ليس له يد في اقترافها، هنا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى، خلاف للمعنى الاسلامي القرآني الذي يبسط معنى «أَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى»، في مفهوم الأدب العربي المستمد من الاسلام ان الخير لابدّ ان ينتصر في النهاية وان الشر لا بدّ ان ينهزم وينتحر، واذا كان المسرح وليد المعبد اليوناني والكنيسة المسيحية فهو اذن غريب عن الأدب العربي حيث لم يعرف العرب مثل تلك الاعياد الصاخبة بمواكب باخوس آله الخمر ولا ما يتصل بها من تماثيل وأناشيد وطقوس ورقص وإباحة، والعرب أهل بديهة وارتجال وهم في بيانهم أهل ايجاز واختصار، لا يحتاجون الى تحليل طويل ولا يهتمون بالتفاصيل التي تخرج عن جوهر الحدث او الخبر وقد علمهم ذلك القرآن الكريم ووضع لهم هذا المنهج.
ان المجتمع المسلم لا يعرف التدسيم ولا يجد فيه لذته الفنية كما يفعل اليونان والغرب، والفكر الاسلامي لا يقر الاساطير ولا يقبل الخرافة ويعتمد على الحقيقة التي يعقلها العقل السليم والصدق الذي تؤكده طبائع الاشياء ويقف من الخالق سبحانه وتعالى موقف التعظيم والتسليم ويسمو بمفهوم الألوهية عن مشابهة الخلق وبعبارة موجزة ان العقيدة الاسلامية على وضوح اركانها وجلاء تعاليمها ومنطق احكامها عقيدة لا يشوبها لبس ولا غموض يتطلبان تحايلاً في التفسير، الوحدانية لا تقبل التأويل ولا تحتوي الشرك ليس هناك ارباب من دون الله سبحانه وتعالى ولا انصاف ارباب كما هي الحال في الوثنية، كذلك لا توجد عقيدة يتعذر فهمها اذ لا يوجد اب ولا ابن ولا روح قدسي كما هو حال العقيدة المسيحية، وشعائر الاسلام على بساطة غنية وتقشف ظاهر فما ثمة حاجة الى عازف يعزف على آلة موسيقية او منشد ينشد نداءات كهانوتية او راقص يدور على نفسه، كل هذه العقيدة القوية في معنوياتها البسيطة في شعائرها القائمة على مناهضة كل مظهر من مظاهر تعدد الآلهة وما يتصل به من فنون السحر وطقوسه ومناسكه لا يمكن ان تتمخض عن فن تمثيلي.
من ناحية اخرى نجد ان الصراع المأساوي او الدرامي هو عقدة المسرحية والقصة لا يجد بيئة طبيعية في ايمان المسلمين ومعتقداتهم ذلك ان البطل المأساوي هو في صراع دائم مع الآلهة ومع القدر اما الانسان المسلم فهو في سلام مع الله تعالى الواحد الاحد الكبير المتعال انه لا يستطيع ان يتصور الصراع مع القدر والآلهة على نحو ما كان يتصوره اليونان. الرؤية الاسلامية في الأدب العربي غير مضببة ولا يشوبها سحاب من الغمام وليست بين بين وليست في صراع مع الطبيعة وهذه الرؤية مضادة لرؤية الغرب بحكم الطبيعة الصخرية الجبلية والضباب والغمام والظلام والصور التي بين بين.
من هذه العوامل المختلفة يتبين كيف ان اصالة الأدب العربي وذاتيتة هي التي حالت دون وجود المسرح وتقبله واذا لم يوجد المسرح عند العرب في جاهليتهم فأحرى به ان لا يوجد لديهم بعد الاسلام الذي قضى على تلك الوثنية واعاد اليهم دين التوحيد فأصفى وانقى ما يكون، وقد دارت مساجلات كثيرة حول خلو الأدب العربي من الملاحم الطويلة والقصة والتراجيديا وظن كثير من الباحثين ان ذلك قصورا ونقص في هذا الادب، وحاولوا الدفاع عنه والاعتذار فيما يظن انه قصور فيه، ومما يذكر في هذا السياق ما كتبه الدكتور زكي مبارك رداً على ما قاله احمد امين من قصور الأدب العربي في انه حرم من الملاحم الطويلة والقصة قال، هذا الحكم يشهد بأن احمد امين يجهل طبيعة الأدب العربي بعض الجهل، ان العرب ليس من طبيعتهم ان يأنسوا بالمنظومات المطولة في القصص والتاريخ، هو يتوهم ان العرب كان يجب عليهم ان يسلكوا في الشعر مسلك اليونان وذلك خطأ فضيع.
وعندما اخذ توفيق الحكيم في كتابة مسرحياته واتخذ من الأساطير اليونانية مصادر لبعض هذه المسرحيات وجه من النقاد العرب من غير المسلمين الى مذهب النقد الغربي الوافد وجه معارضة تكشف الفوارق العظيمة بين المضمون العربي والأسطورة اليونانية، من هذه الإعتراضات ان الآلهة في الميسولوجيا الاغريقية تدفعها حيوية عارمة الى كل تصرفاتها حيوية لا تعرف العدل والحق والخلق والضمير لأنها حيوية عاتية باطشة ليس لديها ما يمنع من حسب كل هذه اللعنة على أوديب لمجرد شهوة حقد الآله أبولون، كذلك صنعت مع هرقل ومع بروماتيوس وغيرهما أما الاسلام فهو ينبذ نهائياً فكرة الشهوة والظلم لله تعالى، من هنا لا يتفق المعنى الاسلامي في القدر مع الفكرة الاغريقية ومعنى هذا ان الاسلام له فكرة مستقلة مختلفة في طبيعتها عن طبيعة الفكر الاغريقي، ومن المؤكد ان مترجمي الفلسفة الاغريقية واليونانية لم يستطيعوا ان يدخلوا الاسطورة والتراجيديا الى الادب العربي الذي كان مستعلياً بنفسه وذاتيته وقائماً على التفاخر والأنفة من إلاغتراف من منبع ادبي وثني، بيد ان التغريب والغزو الثقافي استطاع ان يفرض هذه الألوان على الادب العربي بالترجمة والتأليف والتمثيل لكن هذه كلها ما تزال حتى الآن غريبة منعزلة لم تتمكن من الانصهار ولم يتقبلها المزاج العربي ولا الروح الاسلامية.
*******