حاول دعاة مذهب النقد الأدبي الغربي إثارة إتهام باطل يرمي الى إنتقاص الأدب العربي لخلوه من المسرحيات والدراما والملاحم غافلين ان لكل ادب فنونه التي تشكلها طبيعته وبيئته، وان ليس من الضروري لوصف الأدب العربي بالبراعة والنبوغ ان يكون مماثلاً للأدب اليوناني او الأدب الغربي في كل فنونه، ولقد كان الشعر هو ديوان العرب في الجاهلية ولما جاء الاسلام شكل للأمة مثلاً أعلى استمد اسلوبه ومنهجه من القرآن الكريم وقام على التوحيد الكاشف، وجاءت القصة القرآنية على ذلك النحو الذي عرف عنها بعيدة عن الرموز والغموض والتفاصيل وبعيدة عن الكذب الفني والحيلة والتحوير الذي عرفته القصة اليونانية الغربية. ولذلك فلم يكن الأدب العربي في حاجة الى المسرح الذي كان وليد المعبد والكنيسة والذي ظهر عند الإغريق اصلاً في اعياد باخوس إله الخمر واستعانت به الكنيسة بعد انتشار المسيحية في كنائس روما وباريس اثناء القرون الوسطى.
اما المسلمون فلبساطة مفهومهم الاسلامي ووضوحه ولطبيعتهم التي اتسمت بالصراحة والوضوح لم توجد عندهم حاجة الى المسرح ولذلك انصرف المسلمون ابان حركة الترجمة عن نقل الأدب اليوناني واكتفوا بترجمة العلوم والفلسفات اذ إنّهم لم يكونوا بحاجة اليه بوصفه اداة تعبير عن النفس اليونانية والاغريقية وحدها، ومن حيث ان لهم اداة تعبيرهم التي تحقق لهم ذلك عن طريق النثر والشعر، ولعل سبباً هاماً قد حال بينهم وبين ترجمة الأدب اليوناني هو انه كان ينطوي على خرافات واساطير لها جذورها الممتدة الى عقائد الوثنية القائمة على تعدد الآلهة وصراع الآلهة مع نفسها ومع الانسان ولتعارض هذه الصور والافكار مع ايمان العرب والمسلمين بالخالق الواحد واكباره وتعاليه عن مثل ما توصف به آلهة اليونان من صراع وشهوات وما توصف به من ذكور واناث وآلهة للصيد والخمر والحب، فقد نأى الأدب العربي عن ذلك وسما بالألوهية عن مظاهرة البشر التي لا يقرها عقله ولا يرتضيها مزاجه النفسي.
لقد كان الأدب العربي واضحاً في التعبير عن النفس وواضحاً في العقيدة وضوحاً لا يقبل التأويل ولا يحتمل الشك ولا يقبل التقسيم فأستغنى عما احتاجت اليه الوثنية القديمة والعقيدة المسيحية من بعد لعرضه وشرح تعقيداته وتفسيره وتعليله عن طريق المسرح حتى يمكن الإقتناع به وتقبله، من هنا لم تكن هناك حاجة للبيئة العربية ولا في الأدب العربي ولا في العقيدة التي اعتنقها العرب والمسلمون الى المسرح وقد فرض ادب القرآن الكريم طابعه على كل ما تخرجه القريحة بعد ان اظهرها بأعجازه في اسلوبه الكتابي وفي تعاليمه.
وهناك وجه آخر من وجوه الخلاف والتباين بين الأدب العربي وبين الدراما والمسرحية اليونانية الغربية يتمثل في الصراع المأساوي الدرامي الذي هو حياة الحوار في المسرح مما لا يجد بيئة طبيعية في ايمان العرب ومعتقداتهم ذلك ان البطل المأساوي هو دائماً هو في صراع مع الآلهة والقدر والانسان المسلم هو في سلام مع الله تعالى الواحد الاكبر وفي ايمان بالقدر لا يحول دون السعي وان كان يحول دون المصارعة والصراع، من هنا لا يتصور العقل المسلم الصراع بين الانسان والله تعالى على نحو ما كان يتصور اليونان الذين يؤمنون ان الحرب مع القدر وان كانت نهايتها هي الهزيمة المأساوية فإنها حرب تدل على شجاعة الانسان وجبروته وعلو شأنه، وصراع الانسان مع الباري تعالى أمر لا يفهم ولا يقبل مع التوحيد الذي هو كلمة العقائد في الاسلام، ولم يجد العرب انفسهم في يوم من الايام على نحو يضعهم في صراع مع القدر وذلك لإختلاف العقلية واختلاف طبيعة البيئة الصحراوية عندهم عن طبيعة البيئة الجبلية في اليونان ولهذا لم يعرف هذا اللون من الصراع حتى في فترة جاهيليتهم السابقة على الاسلام بل ان الوثنية العربية لم تكن مؤهلة لهذه المفاهيم اذ لم تكن وثنية أصيلة بل كانت صورة مشوهة من دين قائم على التوحيد لذلك لم يكن لها جذور عميقة او تقاليد قديمة كما كان الشأن لدى الوثنيات الأخرى، من هنا ارتبط المسرح اليوناني بالاسطورة الى حد بعيد ووجد فيها المؤلفون اطاراً يصورون فيه الصراع بين الانسان والقوة الإلهية ولما كانت هذه النزعة وثنية في طابعها لم يقرها الاسلام ولم يقبلها.
ان الكنيسة في القرن العاشر قد استعانت بالمسرح ايضاً في عرض فكرتها بعد ان سقط المسرح الوثني مع سقوط الامبراطورية الرومانية فكانت تقدم القداس الديني ثم تبعثه بصورة تمثيلية طقوسية صغيرة كان يمثلها القساوسة بعد القداس في قلب الكنيسة ثم تطورت الى التمثيليات الدينية الطويلة التي تمثل على اعتاب الكنيسة او في ساحتها وهي المعروفه بتمثيليات الاسرار عن معجزة ميلاد السيد المسيح ثم آلامه وآلام الشهداء الذين اوذوا في سبيل المسيحية، وقد كان المسرح وسيلة لتفسير نظريات المسيحية الفلسفية التي لم يكن من اليسير فهمها إلا بعرضها على هذا النحو التمثيلي، وتقوم فلسفة المأساة الغربية على الخطيئة والقصاص والغفران وترى ان الانسان مرتبط بخطيئة أولية هي خطيئة آدم، وهناك مفهوم الصراع بين الآلهة والقدر وبين الانسان والخطيئة ويبدو البطل في صورة المتحدي لإرادة الله تعالى والمتحدي للقدر وفي رواية باوست نجد انه يتحدى إرادة الله تعالى ويتطاول على الشجرة المحرمة وقد كانوا يرون إنّه المجرم الخاطيء يجب ارساله الى الجحيم ثم تحول الرأي في المأساة مع تحول المجتمع الأوربي فقالوا إنّه صريع القدر.
هذا اللون من الأدب غريب على الذوق العربي والاسلامي فهو خلاصة لمفاهيم دينية وثنية او غربية مسيحية تقوم على فلسفة قوامها الخطيئة التي لا يعترف بها الاسلام والتي ليس لها أي صدى في الأدب العربي فضلاً عن الصراع مع القدر وصراع الآلهة.
وغير هذا وذاك ان نهاية القصص وخاتمة التراجيديا في مفهوم الأدب اليوناني والغربي يجب ان تكون شريرة ومصدر هذا ان التراث اليوناني الغربي كله يرى ان الانسان ثمرة الخطيئة وان حياته تكفير عن هذه الخطيئة وانه كائن لا قيمة له ولاوزن في حين يرى الأدب العربي وفكره المستمد من الاسلام ان الانسان كائن حي وحياته لها قيمة خالصة وإنه ليس مسؤولاً عن خطيئة غيره بل هو معد لأن ينطلق نحو الكمال ويسعى للوصول الى الله تعالى وصولاً معنوياً نقياً يشيع في الحياة الأمل والخير والفضيلة، والواقع ان الخطيئة التي تردد في الآداب الغربية هي خطيئة آدم وهذه في مفهوم الاسلام غفرها الله سبحانه وتعالى له ولم يجعلها ذنباً لاحد من بعده.
*******