في تضعيف حملة الغزو الثقافي على الادب العربي حاول طه حسين ومن قلده من اتباع المبشرين والمستشرقين، حاول اقامة نظرية مستمدة من مذهب النقد الغربي الوافد قوامها تأثر الادب العربي بالادب اليوناني. وقد تصدى كثيرون لمعارضته واحقاق الحق في هذا الامر، الدكتور زكي مبارك يشير الى ان الدكتور طه قد ساير الباحثين الاوربيين في القول بأن الثقافة اليونانية هي مصدر الثقافة الانسانية وان الناس في الشرق والغرب في جميع الاجيال مدينون لثقافة اليونان وان مرد ذلك في نظره انه قرأ كتباً ترى هذا الرأي ثم قال: ولو انه تريث لعرف ان هناك كتباً اجدر بالتلخيص من تلك الكتب.
الدكتور زكي مبارك اعاد الى الاذهان ما ردده طه حسين في كتابه مستقبل الثقافة حين قال ان عقلية مصر عقلية يونانية وانها لا بد ان تعود مصر الى احتضان فلسفة اليونان وقال زكي مبارك في معارض الرد ان الافضل ان يعترف الدكتور طه بأن الفلسفة اليونانية منقولة عن الفلسفة المصرية القديمة، ويتسائل زكي مبارك أفي الحق ان العقل الانساني لم ينضج الا في القرن الرابع قبل المسيح؟
وقال: ان العقل الانساني تقبح قبل الوثنية اليونانية بأزمان وازمان، وقال ان اليونان بعد ظهور الاسلام لم تستطع ان تكون امة تسيطر على الشرق والغرب، وهي قد جهلت تاريخها القديم وجهلت مباديء فلاسفتها القدماء، وجهلت ايضاً لغة سقراط فلم يعد مجدها رهيناً الا بتعصب انصارها من الاوروبيين، اما مصر فقد وقفت وقفة ابية في رد الحروب الصليبية. ثم وجه النقد الى طه حسين لانه اطنب حين تحدث عن قادة الفكر في العصر اليوناني ثم اوجز ايجازاً مخلاً حين تحدث عن قادة الفكر في العصر الاسلامي ويرد السبب في الايجاز والاطناب الى الكتب التي كانت بين يديه وهو يؤلف كتاب قادة الفكر واهمها كتاب اليوم روديان في تاريخ الفكر اليوناني.
ويقول الدكتور مبارك: لو كانت الاقدار قضت بأن يظهر كتاب يؤرخ الفكر الاسلامي عند العرب لكان من المؤكد ان يصول الدكتور طه صولة القادر على شرح ما قامت به العرب من رفع القواعد من الحضارة الاسلامية ومعنى هذا ان زكي مبارك يصف طه حسين بالنقل المباشر من كتب المستشرقين، اما حين لا يجد فأنه يتعثر.
والواقع ان طه حسين لم يكن ليفعل حتى وجدت كتب الغربيين عن الحضارة الاسلامية وهي كثيرة من امثال ما كتب توماس كرليل وغوستا ولوفون وقد اغضى عن هذه الكتب عملياً لأن مثل هذه الكتب لا ترضي سادته المستشرقين، ويعترض مبارك على ما اورده طه حسين حين قرر ان الاسكندر غرس الفكر اليوناني في الهند، ويقول مع ان الاسكندر لم يلمى بالهند الا المامة الطيف فما عساها يقول اي طه حسين لو تذكر ان الفكر الاسلامي تغلغل في ارجاء الهند وما يزال يتغلغل حتى الان، واشار زكي مبارك الى ان طه حسين في نوفمر عام ۱۹۱۹ حين وقف ثروت باشا يفتتح محاضرات الجامعة المصرية ويقدم طه حين الى الجمهور وهو مصر على هذا المنهج في اعلاء شأن اليونان وانه قال في ذلك اليوم البعيد انه عزم على احياء التراث اليوناني لانه يؤمن ايماناً جازماً بأن مرجع الفكر في الشرق والغرب من القدماء من مفكري اليونان وانه مازال في اصراره على هذا القول واثباته في الكتاب المقرر لمسابقة الادب العربي وكان قبل ذلك مقرراً للمطالعة في المدارس الثانوية، وتعرض زكي مبارك لما قاله طه حسين في فصل عنوانه «بين الشرق والغرب» حين اراد ان يجعل القيمة العقلية من حظ الغرب وان يجعل البوارق الخيالية من حظ الشرق وانتهى هذا المتغرب التالف الى ان الغرب وطن الفلاسفة واما الشرق وطن الانبياء وهو يحاول ان يقرر ان قوة الغرب ترجع الى انه وطن الفلاسفة وان ضعف الشرق يرجع الى انه وطن الانبياء، وفي هذا السياق يشير زكي مبارك الى الفرق بين الفيلسوف والنبي فالفيلسوف هو رجل محب للحكمة ولكنه في اكثر اقواله يؤثر السلام وقد يركن الى الخمول ومعنى هذا ان الفلاسفة لم يكن لهم فاعلية بدليل انهم عاشوا في عزلة عن المجتمع، وعنده ان سقراط وهو ابوالفلاسفة لم يسلم عقله من الخضوع لمعبد ابولون وكان حاله عند الحكم عليه غاية في سوء المصير، فقد ظهر انه لن يستطيع ايجاد فئة تحميه من القتل ولم يكن تلاميذه والمقربون اليه الا انصاراً لا يجيدون غير البكاء، اما الرسول فهو رجل مجاهد يرى من واجبه ان يستقتل في هداية المجتمع وان يرحب بالموت في سبيل الجهاد، وقد نجح الانبياء والمرسلون في هداية الشرق والغرب واليهم يرجع الفضل في اقامة الدعائم للحضارة الانسانية وهل من القليل ان يستطيع ثلاثة من الانبياء والمرسلين ان يهيمنوا بالروح والفكر والعقل على الكثير من اقطار الشرق والغرب بأضعاف اضعاف ما هيمن سقراط وافلاطون وارسطو واطاليس، وخلص مبارك الى القول بأن محمداً هو القائد الاول للفكر الانساني لا سواه.
ويواصل زكي مبارك كشفه عن مظاهر سقوط طه حسين في احضان التغريب والاستشراق المعادي لمعتقدات الأمة فيقول الدكتور مبارك ان الدكتور طه حسين اراد ان يغض من العقلية الشرقية بحجة انها خضعت للكهان والانبياء والظاهر ان الدكتور طه يتوهم ان الكهانة ظاهرة شرقية لا غربية ويشهد طه بأن سقراط قد استلهم الكهان مع انه في زعمه محرر العقل الانساني من اغلال الاضاليل ثم قال الدكتور زكي مبارك واقول بعبارة صريحة ان الكهانة لم تعد مهنة مقدسة الا في عهود الوثنية اليونانية فقد كانت لها معابد وسدنة وامناء وكان المصير لكل معضلة فردية او وطنية رهيناً برأي الصوت المتنكر في زوايا الظلام المنشور فوق معابد اليونان، اما كهان الشرق فكان مركزهم في المجتمع ايسر واخف لان الشرق سبق الغرب الى استيحاء العقل، وقال مبارك ان النبوات في الشرق لها في عنق الانسانية ديوناً يراها الحاضر ويذكرها التاريخ. واخيراً فقد نبه الدكتور زكي مبارك الى ان هناك دعوة فكرية هي من اهم الدعوات في تاريخ الغرب تلك هي دعوة مارتين لوثر، ولكن طه حسين لم يشر اليها فلماذا اغفل ذكر هذا الاستاذ المتغرب؟ الواقع ان دعوة لوثر كانت خطوة جرئية في تحرير المسيحية من العبودية والرهبانية فما مصدر تلك الدعوة؟ مصدرها اسلامي ولوثر قد تأثر بجانب من مفاهيم الاسلام حتى غدا قوة فكرية عظيمة ولم يحظر على بال طه حسين ان يذكره وهو يتحدث عن قادة الفكر لانه لم يؤخذ الفكر عن اليونان مع ان مارتن لوثر قد اثر في الاخلاق الاوروبية تأثيراً لا يقاس به تأثير سقراط وافلاطون.
******