اشتدت الهجمة التغريبية في النصف الاول من القرن العشرين من خلال التخطيط لغزو الادب العربي والدراسات الادبية الجديدة وكان مذهب النقد الغربي الوافد قد اولى اهتمام كبير بالادب الاغريقي الهيليني او اليوناني، وكان ذلك عملاً محسوباً في مخططات تغريب الادب العربي وفصله عن جذوره الأصيلة وادخال مفاهيم غربية اليه، ولما كانت غزوة الادب الاوروبي الغربي الحديث هي العمل الاساس فقد كانت غزوة الادب الاغريقي عملاً مكملاً وعنصراً اخراً يزيد من مسافة التباعد عن اصول الادب العربي نفسها، من هنا ركز التغريبيون على هذا الادب تركيزاً شديداً وتخصص فيه كبيرهم وحامل لواءه والداعي اليه باصرار وموالاة دون توقف طه حسين ثم ظهر عدد كبير من الدعاة في بيروت ومصر وفي مقدمتهم صفر خفاجة واسماعيل مظهر ولطفي السيد وسلامه موسى وتوفيق الحكيم ولويس عوض وغنيمة هلال والدكتور غلاب اخيراً، وغفل عن الخطر كتاب آخرون اشادوا بأفلاطون وارسطو دون ان يفقهوا ما يرددونه ولم يعرفوا ابعاد القضية اساساً فيما يتعلق بإتصال الفكر الاسلامي والثقافة العربية بالفكر اليوناني.
لقد حاول هؤلاء الدعاة ان يتخذوا من قضية الفكر اليوناني مع الفكر الاسلامي القديم حجة لهم ووسيلة الى تبرير اعمالهم في اغراق الادب العربي المعاصر بالآثار اليونانية ولكنهم عرضوا هذه القضية على غير حقيقتها واتخذوا من مظهرها الخارجي اداة اقناع في حين يرى المتعمق في الامر ان فكر المسلمين لم يتقبل الفكر اليوناني وان استخدم بعض جوانبه الصالحة بيد انه رفض وثنياته ورفض ايضاً سيطرته، اما الادب اليوناني فإن العرب والمسلمين لم يتقبلوه اساساً ويبدو هذا واضحاً في انهم لم يترجموا الشعر اليوناني اما مناهج النقد والشعر والبيان فإنها لم تجد لها طريقاً فأنحصرت وماتت غير مأسوف عليها، وقد استقبل فكر المسلمين الترجمة اليونانية اول الامر دعوة منه ورغبة في سبق الاتصال بالفكر البشري كله وقد استقبلها وهو في أوج قوته وبعد ان تكاملت قيّمه ومقوّماته وحين استقبلها وهو في ذروة قوّته وبعد ان نقدها ليتقبل منها إلا ما وجده متفقاً مع اصوله واهمها التوحيد والنبوة والعدل والحق والحرية فلما حاولت هذه الترجمات واقبست في علوم الكلام والفلسفة التدخل في العقائد استطاع الفكر الاسلامي ان يناهضها ويشكل نفسه من جديد وفق قيمه واصوله وبهذا نجا مما وقعت فيه اليهودية والمسيحية حين سيطر عليها الفكر اليوناني وقد ارتفع به في بعض المراحل لكنه لم ينصهر فيه او يغرق في بئره او ينحرف عن اي المضامين الاصيلة تحت تأثيره او يتقبل منه قيمة واحدة يضيفها الى اصولة التي استمدها في الاساس من القرآن الكريم والتي كانت قد تكاملت منذ عصر النبي (صلى الله عليه وآله).
من هنا حرص النفوذ الاجنبي والتغريب والغزو الثقافي على ان يركز على ترجمه الادب الاغريقي واغراق الادب العربي فيه خلال فترة من فترات الضعف وفي ظل نفوذ استعماري قادر على فرض ما يشاء وقد وضح هذا في اوائل القرن حين ظهرت ترجمة الايلياة والاوديسة عام ۱۹۱۳ التي قام بترجمتهما سليمان البستاني وفي حينها كتب السيد رضا يقول الان عرفنا موقف العرب من الشعر اليوناني ولماذا نبذوه ولم يترجموه ولم يأخذوا من معاينه فلما اطلعنا على الايلياذة وهي اعلى شعر الاغريق ومفخرة تاريخية حكمنا بأن اجدادنا لم ينبذوا شعر اليونان وراء ظهورهم إلا لأنهم وجوده دون الشعر العربي في حكمه وسائر معانيه وانه مع ذلك محشو بالخرافات الوثنية التي طهر الله تعالى عقولهم وفحيلاتهم منها بالاسلام.
وقد حمل طه حسين لواء ترجمة الأدب الاغريقي والتعريف به على اكثر من اتجاه وكان قد عاد من فرنسا حين اختير استاذاً للجامعة المصرية لتدريس التاريخ اليوناني والروماني منذ عام ۲۰ حتى عام ۲٦ حيث تحول الى الجامعة المصرية لتدريس الادب العربي القديم، اما في الفترة الاولى فقد عني بترجمة ما اسماه صحفاً مختارة من الشعر التمثيلي عن اليونان وكتب تلك الفصول التي اطلق عليها قادة الفكر والتي طبعت من بعد وقررت على طلبة المدارس الثانوية وقد ضم التراجم بعض فلاسفة اليونان امثال ارسطو وافلاطون وسقراط، وكلمة قادة الفكر من العبارات الغامضة الماكرة التي اريد بها أن يقال إنّ هؤلاء القادة انما هم قادة الفكر البشري كله وفي هذا كما ترى توجيه خطير لشباب الأمّة يلقي في اذهانهم ان ارسطو وافلاطون وسقراط هم قادة الفكر دون ان يعرف انهم قادة الفكر اليوناني وحده وان الفكر الاسلامي له قادته الكبار الذين استمدوا منهجهم من الاسلام والقرآن ومن النفس الاسلامية والمزاج الاجتماعي الخاص بهذه الأمّة، هذا ما عدا اهل العصمة النبي واهل بيته (عليهم السلام) الذين هم الناطقون عن الحق والقادة للخلق، ولا ريب ان بيننا وبين قادة الفكر اليوناني فوارق كثيرة وخلافات واسعة اهمها الوثنية والعبودية التي اقرها افلاطون في جمهوريته وتابعه عليها ارسطو وقامت عليها الحضارتان اليونانية والرومانية.
ولما ترك طه حسين تدريس التاريخ اليوناني الى تدريس الادب العربي القديم لم يترك دعوته الى اعلاء آداب اليونان ومذاهبهم بل حمل معه هذه المعاني الى الادب نفسه فزعم سبق الأدب اليوناني وتأثيره في الأدب العربي وفي كل الآداب ثم كان له من النفوذ الذي يهيئه له الغرب ما أتاح له أن يفرض اللغتين اليونانية واللاتينية على الدارسين في كلية الآداب بل استطاع طه حسين ان يفرض أدب اليونان على مناهج المدارس الثانوية حين تولى منصب المستشار الفني في الوزارة وغير هذه المناهج بحيث اهمل الخطابة عند العرب واختصر فصولها بينما انتقل مباشرة الى الخطابة اليونانية فوسعها وافاض عليها ومجّد خطباء اليونان القديمة واستوعب النموذج المختلفة والواسعة من كلامهم، وقد سجل الباحثون هذا الانحراف في وقته وكشفوا عن هدف طه حسين الذي تعمد تغريب الادب العربي ونقله عن مقوماته وقيمه وفرض ذوق غريب عليه وكان هذا الهدف ابعاد النفوس عن مجد اللغة العربية وسمواد بها بحرمان الناشئين من معرفة الوسائل المؤدية الى هذا السمو وهذا المجد، وهذه الوسائل هي وسائل فهم القرآن وفهم الدين وانه بقدر ما يكون بعد المسلمين عن لغتهم واديهم يكون بعدهم عن فهم الدين والقرآن.
*******