ويقول في آيةٍ أخرى: { وَلَنُسْكِنَنَّـكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ }[إبراهيم: 14]، ويقول سبحانه وتعالى في آيةٍ أخرى: { الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ وَكَفَى بِاللهِ حَسِيبا }[الأحزاب: 39].
هذه الآيات وغيرها من الآيات الكثيرة في القرآن، ركَّزت على مسألة الخوف من الله في عمق شخصيَّة المؤمن؛ فلا بدَّ للإنسان المؤمن في كلّ حياته الإيمانيَّة الداخليَّة من أن يستشعر خوف الله في قلبه، بحيث يواجه حياته من موقع أنّه مسؤولٌ أمام الله في كلّ قضية صغيرة أو كبيرة، وأنَّ هناك حساباً على كلّ شيء، وأنَّ الله مطّلع على كلّ شيء مهما كان سريّاً.
وهكذا يعيش الإنسان في نفسه هذا القلق النفسي من خلال طبيعة عمله ؛ هل يرضي عملُهُ الله فيأمن عذاب الله غداً، أم عمله لا يرضي الله فيكون في موقع عذاب الله غداً؟ وعندما يؤكّد الله في القرآن على الخوف، فإنّه لا يريد الخوف الذي يجعلك تعيش في نفسك هذه الحالة الذاتيَّة الانفعاليَّة بعيداً من مسألة العمل، إنَّ الله يريد منك أن تظلّ خائفاً منه، لتراقب نفسك كيف يكون عملك، وكيف يكون التزامك بربّك، وكيف تؤكِّد إيمانك بعملك وبكلِّ أوضاعك العامَّة والخاصَّة.
تخاف من الله فتنضبط، وتخاف من الله فتلتزم، وتخاف من الله فتترك كلّ حرام، وتخاف من الله فتفعل كلّ ما أوجبه الله عليك، وهذا ما أكَّدته الآية الكريمة: { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى }[النازعات: 40]، أن تخاف الله، ثمّ تقول لنفسك: يا نفس، إنَّ الله حرَّم عليكِ أشياء، وأوجب عليكِ أشياء، وجعل لكِ في ما حرَّمه عليكِ وفي ما أوجبه عليكِ الجنّة في الطاعة.
إذا أطعتِ يا نفس ما أمركِ الله به، وأطعتِ ما نهاكِ الله عنه فتركته، فإنَّ الله سيعطيك ثواب ذلك رضاه والجنّة؛ وإذا عصيتِ، يا نفس، ما حرَّمه الله عليكِ ففعلته، وما أوجبه الله عليكِ فتركته، فإنَّ أمامك سخطه والنَّار. ليكن خوفك من ربِّك منطلقاً من شعورك بعظمة الله، ومن خطورة سخطه، ومن خطورة عذابه في يوم القيامة.
وبذلك يكون خوفك من الله خوفاً عملياً، تستشعر فيه ضرورة أن تلتزم الخطّ الذي يقرّبك إلى الله ويصلك به، وأن تبتعد عن الخطّ الذي يبعدك عن الله، ويقرّبك من الشيطان.
ولا بدَّ للإنسان أن يعيش ذلك في نفسه إذا كان يأمل في الجنّة، ولا بدَّ أن يكون خوفك من الله سبحانه وتعالى في كلّ أعمالك وأقوالك وعلاقاتك، بحيث يكون هو المقياس في ما تقبله أو ترفضه، في ما يعرض عليك الناس من مسؤوليَّات ومواقف، وفي ما يعرضه الناس عليك من مواقع وعلاقات.
* من كتاب "الجمعة منبر ومحراب"
السيد محمد حسين فضل الله