مرة اخرى نلتقي لرؤية ما فعلته المناهج الغربية المجتنبة في دراسة الادب العربي كمظهر من مظاهر الغزو الثقافي والفكري وقد رأينا في لقاءنا السابق ان ابرز الموضوعات التي تحكمت فيها مناهج الغرب في موضوع الادب هي تقسيم الادب العربي الى عصور سياسية فوقية ليست اصيلة ولا جوهرية وتقسيم هذا الادب على اساس الاقاليم عزلاً للأدب كل اقليم عن الاخر الذي يشترك معه بروابط صميمية متينة، وقد ثبت حتى الان فشل منهج العصور في الادب العربي وانتهت التجارب التي جرت الى تطبيقه الى الاخفاق في ابراز قسماته الدقيقة ورسم صورته الصحيحة، اما الاقليمية فأذا صحت بالقياس الى الاداب الاوروبية المتحاجزة فيما بينها فأنها لا يمكن ان تصح بالقياس الى الادب العربي الواحد رغم تعدد اقاليمه. ان تدوين الادب العربي ودراسته وفق العصور والاقليمية ليس غير تبعية ذميمة في تاريخ الاداب الغربية، وكشفت السنوات الفائتة خلال نصف قرن او اكثر عن فشل هذا المنهج واخفاقه ايضاً وظهرت الحاجة الملحة الى طرح هذا المنهج وطلب منهج آخر اكثر اصالة وابعد عن عوامل التعزيب التي جهدت لتمزيق وحدة الادب العربي.
انه يا اخي اذا كانت الدعوة لايقاظ الادب العربي وانهاضه تحمل لواء الخروج من الخضوع لمذاهب القدماء فلماذا لا يكون الحل بالخضوع لمذاهب الآخرين واذا كنا صادقين حقاً في تحرير الادب العربي ومنحه ذاتيته وقوته فلماذا نأخذ ما وضعه الاوروبيون من مناهج تناسب اذواقهم وبيئاتهم وظروفهم السياسية والاجتماعية ليدرسوا عليها ادبهم الخاص بهم، لماذا نأخذها اخذاً اعمى دون تقدير لاي عامل من عوامل الاختلاف في الزمان او البيئة او الذوق؟ وكل هذه عوامل تحكم بالتباين بين ادب وادب وبين مناهج تاريخ ادب وتاريخ ادب، ذلك لان هذه المناهج انما استمدت وجودها اساساً ونبعت من الاداب نفسها وعلى ضوء مادتها الادبية. ان الخطأ كان في متابعة اولئك الدعاة الغربيين قبل التعرف على جوهر اهدافهم وما تخفي صدورهم من غايات، وقد اعزت الناس اسماءهم اللامعة على الرغم مما اثير حولهم من شبهات وما كشفت الاحداث من مواقفهم المريبة فقد جرى اناس وراءهم وتابعوهم لما رفعوه من شعارات ارادوا بها اغراق المسلمين في الاممية الفكرية والعالمية الادبية وهي في الواقع شعارات جوفاء خالية من المعنى الواقعي.
كثير من المؤلفين العرب اخذوا ما قاله الغربيون او تأثروا بأفكارهم دون ان يفكروا في صلاحه او خطأه، ومن هم ما اخذ الغربيون بثقة واطمئنان ومنهم من نظر اليه على انه اكثر قداسة والاولى بالتقدير، واذا كان يعاب على الادب العربي في عصوره الاخيرة انه جمد على مذاهب القدماء وهم من العرب وعلى ذوقهم فأي عذر لتقبل ما يفرضه الغرب من مناهج انشأها الغربيون على مقاييس ادبهم وقدود فنونهم؟
وماذا تكون تابعين لمدارس معينة في الفكر والادب والشعر ولا تكون لنا نظرية اصيلة ومدارس حيوية قائمة على اسس من قيمنا؟ لماذا نتأقلم نحن لنظريات الاخرين ولا نبدع مذهباً خاصاً بنا؟ والى متى يظل الولاء لمذاهب الغرب في دراسة الادب العربي؟ والواقع ان هذه المذاهب افسدت نظرتنا ولم تستطع ان تمنعنا اصالة فكرية، وكان هدفها عزل العرب في العصر الحديث عن ادبهم القديم كله وازدراءه واقامة مفاهيم الادب الحديث وفق مناهج غربية تأكل الاصالة وتقضي على الشخصية الاصيلة للامة، ولا ريب ان انتساب الادب العربي الى الاسلام والقرآن كفيل بأن يقيم له ذاتية خاصة ومنهجاً مستقلاً يمتاز بالاصالة والتفرد والتعمق.
كان تقسيم الادب العربي الى عصور سياسية من آثار متابعة الغربيين في احكامهم على هذا الادب ولا ريب ان الادب العربي يختلف عن الادب الفرنسي او الانجليزي او الامريكي في انه ادب اللغة العرقية العربية التي قامت قبل سبعة عشر قرناً والتي غذاها القرآن الكريم في اضخم اضافة لغوية وفكرية في تاريخها كله، وهذا الادب قد انتشر واتسع نطاقه مع انتشار الاسلام حتى ترامت بيئته من جنوب فرنسا الى تخوم الصين، وقد جمع اليه عقليات الفرس والترك والبربر والعرب جميعها حيث تشارك فيه هذه القاعدة العريضة للادب العربي وان ما يفسدها هذا المنهج الذي يقسم التايخ الى عصور، فأذا اصفنا اليها طبيعة هذا الادب نفسه وارتباطه بالبيئة الواسعة والاسلوب القرآني وبمفاهيم التوحيد والاخوة التي جاء بها الاسلام بدا واضحاً ان لهذا الادب شخصيته المميزة وبدا من غير الصحيح اطلاقاً ان يطبق عليه منهج غربي. قام اساساً هذا المنهج اي الغربي على ادب اقليمي ضيق في فرنسا او بريطانيا او ايطاليا ولا يزيد عمره على اربعمئة عام، واستمد مقوماته من مفاهيم قوامها الادب الاغريقي الوثني والقوانين الرومانية الارستقراطية المستعلية بأسم السيادة الرومانية وعبودية ما حول روما، ومستمدة ايضاً من مفاهيم المسيحية الغربية التي اخرجها الغربيون عن سماحتها وجوهرها واضافوا كذلك اليها سمات واطر من الفكر اليوناني القديم، كل هذا يشكل فوارق بعيدة تصل بنا الى اليقين بأنه من العسير تقبل مناهج الاداب الاوروبية لتطبيقها على الادب العربي.
واهم ما يوجه الى منهج تقسيم العصور من اتهامات تضعفه هو ان هذا التقسيم مناسب لطبيعة الاداب الاوروبية بوحداتها المتعددة المنفصلة عن بعضها انفصالاً سياسياً وتاريخياً ولغوياً وادبياً من حيث استقلال كل منها بلغتها الخاصة وادبها الخاص في ضمن حدودها الضيقة، في حين يواجه الادب العربي مساحة ضخمة تشمل عدداً كبيراً من الاقاليم في قارتين واسعتين، النقطة الاخرى هي ضيق المساحة الزمنية التي يتحرك فيها الادب الاوروبي وهي في مجموعها لا تزيد على خمسة قرون اي منذ عصر النهضة ونشأت اللغات المستحدثة المنفصلة عن اللغة اللاتينية، والنقطة الاخيرة هي ان العصور تجري الاحداث فيها متلاحقة كل حادث ينشأ يكون منفعلاً بأسباب وعلل تقدمه وهي ايضاً متصلة بحادث سابق ذلك ان الفكرة تنبع من افكار تقدمتها او ولدتها وخرجت احياناً مباينة لها في الصورة والشكل وبذلك تنتقل مؤثرات عصر سابق الى عصر لا حق. ثم ان الاحداث السياسية التي تقع في زمن من الازمنة انما تحدث اثارها في مرحلة تالية ومعنى هذا ان تقاسيم العصور السياسية المفروضة على الادب العربي تدخل عليه اضطراباً خطيراً فضلاً عن ان هذا المنهج يؤدي الى تصوير هذا الادب في معظم حالاته على انه ذنب للسياسات ومصبوغاً بضبغة النظام الحاكم وهذا مما ينافي واقع التاريخ.
*******