قال لهم: يا قوم.. إنّي في غَدٍ أُقتلُ وتُقتَلون كُلّكُم معي، ولا يَبقى مِنكم واحدٌ، فقالوا: الحمدُ للهِ الذي أكرمَنا بنصرِكَ وشرّفَنَا بالقتل معك، أوَ لا ترضى أن نكون معكَ في درجتِكَ يا بن رَسولِ الله؟ فقال (عليه السّلام): جزاكم الله خيراً، ودعا لهم بخير.. فقال له القاسم بن الحسن(عليه السّلام): وأنا فيمَنْ يُقتل؟ فأشفق عليه، فقال له: يا بُنيّ، كيف الموت عندك؟ قال: يا عمّ، فيك أحلى مِنَ العسل، فقال: إي واللهِ فداك عَمُّكَ، إنّك لأحدُ مَنْ يُقتل من الرجال معي، بعد أن تبلوا ببلاءٍ عظيم، ويُقتل ابني عبد الله.
يقول الراوي في مصرع القاسم بن الحسن المجتبى (عليه السلام): ثمّ خرج مِن بَعدِه (أي بعد شهادة عَون بن عبد الله بن جعفر) القاسمُ بن الحسن (عليه السّلام)، وهو غلامٌ صغير لم يبلغ الحُلُم، فلمّا نظر الحسينُ إليه وقد بَرَز، اعتَنَقَه وجعلا يبكيان حتّى غُشِيَ عليهما.
ثمّ استأذن الحسينَ (عليه السّلام) في المبارزة، فأبى الحسينُ أن يأذَن له، فلم يَزَل الغلامُ يُقبِّل يدَيْه ورِجلَيْه حتّى أذِن له، فخرج ودموعُه تسيل على خَدَّيه، وهو يقول: إنْ تُنكِروني فأنا إبنُ الحسَنْ * سبطِ النبيِّ المصطفى والمُؤتمَنْ هذا حسينٌ كـالأسيرِ المُـرتَهَنْ * بينَ أُناسٍ لا سُقُوا صَوْبَ المُزَنْ وكان وجهُه كفِلْقَة القمر، فقاتلَ قتالاً شديداً، حتّى قَتَل على صِغَره خمسةً وثلاثين رجلاً.
يقول حميد: كنتُ في عسكر ابن سعد، فكنتُ أنظر إلى هذا الغلام عليه قميصٌ وإزارٌ ونعلان، قد انقطع شِسْعُ أحدهما، ما أنسى أنّه كانت اليُسرى.
وأنِفَ ابنُ النبيّ الأعظم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن يَحتَفيَ (أي يكون حافياً) في الميدان، فوقف يشدّ شِسعَ نعله، وهو لا يَزِنُ الحربَ إلّا بمِثْله (أي بمِثْل نعله)، غيرَ مكترثٍ بالجَمْع.
فقال عمرو بن سعدٍ الأزْديّ: واللهِ لأشدّنَّ عليه! فقلت: سبحانَ الله، وما تُريد بذلك؟! واللهِ لو ضَرَبَني ما بَسَطتُ إليه يدي، يكفيه هؤلاءِ الذين تَراهُم قد احتَوَشُوه، قال: واللهِ لأفعَلَنَّ.
فشدّ عليه، فما ولّى حتّى ضَرَب رأسَه بالسيف، ووقع الغلامُ لوجهه ونادى: يا عمّاه! قال: فجاء الحسين كالصَّقر المُنقَضّ، فتخلّل الصفوفَ وشَدّ شدّةَ اللّيثِ الحَرِب، فضَرَب عَمْراً قاتِلَه بالسيف، فاتّقاها بيده فأطَنَّها من المَرفِق، فصاح ثمّ تنحّى عنه، وحَملَتْ خيلُ أهل الكوفة ليَستَنقِذوا عَمراً من الحسين، فاستَقبلَتْه بصدورها، وجَرحَتْه بحوافرها، ووطِئَتْه حتّى مات.. فانجَلَتِ الغُبرة، فإذا بالحسين قائمٌ على رأس الغلام وهو يفحص برِجْله، فقال الحسين: يَعزُّ –واللهِ- على عمّك أن تَدْعُوَه فلا يُجيبك، أو يُجيبك فلا يُعينك، أو يُعينك فلا يُغني عنك، بُعْداً لقومٍ قَتَلوك! وحمل الإمامُ ابنَ أخيه بين ذراعيه، وهو يفحص بيديه ورجليه، حتّى فاضت نفسُه الزكيّة بين يديه، وجاء به فألقاه بجوار ولده عليّ الأكبر وسائر القتلى الممجَّدِين من أهل بيته، وأخذ يطيل النظر إليهم وقد تصدّع قلبه، وأخذ يدعو على القَتَلة المجرمين من أعدائه الذين استباحوا قتل ذرّية نبيّهم، قائلاً: اللهمّ احصِهِم عدداً، ولا تغادِرْ منهم أحداً، ولا تغفرْ لهم أبداً.. صبراً يا بني عمومتي، صبراً يا أهل بيتي، لا رأيتُم هواناً بعد هذا اليوم أبداً.