صدر الانسان على الكوكب الارضي من يد القدرة الالهية المهيمنة التي مصدر الجمال والكمال والجلال، والى هذه القدرة المطلقة العظيمة سوف يعود عبر بوابة الموت ليشهد هنالك الحياة الابدية الباقية وليتخذ موقعه هناك في النعيم الدائم او الشقاء الدائم على طباق ما كان عليه باطنه ومضمونه الروحي في مرحلة الحياة الدنيا كما قال الحق تعالى: «وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً» وفي النطق النبوي المبارك: «انما هي اعمالكم ترد اليكم» والانسان هذا الكائن الكريم ينزع بفطرته التي جعلها الله في باطنه الى البحث عن الكامل والسلوك في طلب الكمال وقد جاء لطف الله تبارك وتعالى في ارسال الرسل وبعث الانبياء وتعيين الاوصياء (صلوات الله عليهم) اجمعين من اجل هداية البشرية الى الصراط الذي يفضي بسالكه الى الكمال ويريه المنهج الحق الذي يحقق له انسانيته في الدنيا ويهبه الانسجام الحقيقي مع حقائق الوجود الكبرى ويجعله في مرحلة الموت وما بعد الموت من الفائزين بالسعادة الرائعة في عوالم الابدية العلوية المقدسة حيث لقاء الله جل جلاله الذي هو منتهى طلب الطالبين وغاية آمال العارفين.
ان من ابرز ما تضمنته رسالات الانبياء الالهية في معرض ارائة طريق الكمال الانساني هو ظاهرة الدعاء والتعبد لله تعالى في الضراعة والابتهال والمناجاة، ذلك ان الوقوف بين يدي الله سبحانه في حالة الضراعة والدعاء هو تعبير عن شوق الكائن البشري الى الاتصال الحق الذي منه صدر واليه يعود، وهو اشبه شيء بشوق قطرة الماء لتعود الى البحر المحيط الذي انفصلت عنه والا ظلت ضائعة على الارض بدداً، تحدق بها اخطار التنجس او الجفاف والفناء الا ان تعتصم بالبحر الكلي الاعظم فتعود اليه وتفنى فيه وتغدو كالبحر في طهره وعمقه واتساعه وبقاءه وعظمته، حالة الدعاء يا اخي هي حالة وجودية عالية يفوز بها الانسان فترتفع به من السطح المادي الظاهر الى آفاق عالية تموج بالحياة والشوق والشفافية والتخفف من ثقلة الطين وعندها ينفتح على عوالم المعنى والنور والاقتراب الروحي من الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولانوم. ان الدعاء ينطلق من شعور الانسان بالفقر الوجودي المطلق بين يدي الغنى الوجودي المطلق وهو اذعان بالعبودية العاجزة امام الربوبية القادرة طلباً للقوة والقدرة والعون، فأذا وصل حبل الدعاء بين الفقر والغنى وبين العبودية والربوبية خرج الانسان من الضعف الى القوة ومن النقص الى الكمال وغدا موضع نظر الله وموضع الطاقة الخاصة وعندئذ تكون القطرة الصغيرة التائهة قد اتصلت بسكينة البحر العظيم، من هنا بشرنا الانبياء والاوصياء (سلام الله عليهم) ان الدعاء مخ العبادة ولا يهلك احد مع الدعاء وان احب الاعمال الى الله في الارض الدعاء. ونقرأ في كتاب الله المجيد، «قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ» ونقرأ ايضاً هذه الآية المبشرة الباثة للامل «وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ». ومن هنا ايضاً كان الزهد بالدعاء والاعراض عنه يعني المكوث في الضعف وفي السطحية والعكوف على اوثان المادة والافكار المظلمة الزائغة وسوء المصير، كما قال الحق جل وعلا وقد سمى الدعاء عبادة «إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ».
وقد نصح لنا نبينا الرؤوف الرحيم واهل بيته الاوصياء المعصومين افضل ما نصح احد لامته، ومنوا علينا بأيقاظنا على قيمة الدعاء ودوره في الفوز بالكمال المسعد واكثر من ذلك انهم علمونا المعاني التي ندعو بها وتركوا لنا نصوصاً كثيرة ترينا ادب العبودية في مخاطبة مقام الربوبية، علمونا كيف يكلم الناقص الكامل وكيف يسأل الضعيف القوي وكيف يناجي الانسان ربه الكريم.
اخي المستمع، ما وصل الينا من ثروة نفيسة في مجال الدعاء يمثل كنوزاً حيوية قادرة على ان تعيد صياغة الانسان المسلم الروحية والعقلية والسلوكية صياغة توحيدية شاملة وان تصبغه بصبغة الله «وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً» وحينئذ ينهض المسلم المعاصر من كبوته وينجو من عثراته ويمتلك الرؤية الايمانية المشرقة الخضراء فينبعث في العالم لقيادته بالرسالة المحمدية ولانقاذه من شرور الانكفاء في الحياة المادية الشوهاء، والواقع يا اخي ان الدعوات التي ورثناها عن النبي واهل بيته الطاهرين (صلوات الله عليهم) اجمعين لا تنطوي على ذخائر معرفية اصيلة عالية نتعلم منها حقائق التوحيد، وتبصرنا بآفاق من الحياة الغيبية الاخرة وترشدنا الى اقامة العدل في الحياة الاجتماعية السياسية والى التوازن الاقتصادي السليم وتهدينا الى الخير في العمل والنية والتفكير والى البناء والتكامل في المسيرة الانسانية على الارض كما تفتح بصائرنا للتأمل العميق في آفاق الكون.
ان هذه النصوص العظيمة قادرة ان تجمع حول محورها المسلمين كافة ممن يهمهم امر التبصر والتعبد والارتقاء في معارج التوحيد والمشي اسوياء على صراط مستقيم، كما انها قادرة على ان تجتذب اليها كل انسان في العالم يعنيه ان يعيش كريماً نقياً مترفعاً عن دنايا الاهواء ورذائل الانحراف، يحترم انسانيته ويحترم الانسان.
والمزية الكبرى لهذه النصوص الدعائية المقدسة انها قد صدرت عن رجال هم الادلاء على الله والتامون في محبة الله، انه يا اخي لتوفيق كبير ان نقبل على ادعية اهل البيت (عليهم السلام) وانه لتوفيق اكبر ان نتفتح عليها من عمق القلب وان تحلق في آفاقها النورانية الرائعة.
*******