من القصص المثيرة المكتنزة بالمعنى، المتوشحة بالسر قصة لقاء نبي الله موسى (عليه السلام) بالعبد الصالح كما ظهرت في سورة الكهف.
يؤمر موسى (عليه السلام) بأن يمضي الى الساحل حيث مجمع البحرين مصطحباً فتاه، وبعد سفر مضني وملابسات خاصة وجد موسى ما كان يبتغي «فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا» هناك ملأ موسى (عليه السلام) شعور انه تلميذ امام هذا العبد الصالح وان عليه ان يكون له تابعاً متعلماً وفعلاً طلب من هذا العبد الصالح بأدب جم ان يوافق على تعليمه مما علمه الله تعالى من علمه اللدني الذي يغوص في الحقائق الكامنة وراء الظاهر المألوف المكشوف، قال له موسى «هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا» وبعد حوار اشترط العبد الصالح على موسى ان يصبر على ما يرى وان لا يسأل عما يفعل هذا العبد الذي تقول الروايات انه الخضر (عليه السلام). ووافق النبي موسى على هذا الشرط «فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا» لكن موسى اخذته غيرته الشرعية فأعترض على خرق السفينة بدون سبب مكشوف فذكره الخضر بالشرط واعتذر موسى،«فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا» ومرة اخرى ذكره العبد الصالح بما اشترط عليه في البدء، فأعتذر موسى (عليه السلام) وطلب فرصة اخيرة يثبت فيها صبره وقدرته على التعلم، «قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْرًا» فأنطلقا حتى وصلنا الى قرية بخيل اهلها قأبوا ان يطعموهما كضيوف وكغرباء وانصرف موسى والعبد الصالح الى فسحة هناك خربة فوجدا فيها جداراً يوشك على السقوط ففوجيء موسى ان العبد الصالح قد شمر عن ساعديه لاقامة الجدار وبناءه من جديد فوصلت دهشة موسى الذروة فقال لصاحبه «لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا» لقد نسي موسى وعده بالصبر وقد سأل قبل ذلك كفرصة اخيرة، وها قد مرت الفرصة الثالثة «قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ»انتهى الامر ولن تعرف مني ما اردت ان تعرف، ولن تتعلم مني ما اردت ان تتعلم، ولكي تطمئن بالاً فسوف احدثك بأسرار ما رأيت «سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا» فماذا كانت تلكم الاسرار؟ وما هو التأويل؟
بدأ العبد الصالح الذي اتاه الله من لدنه علماً يكشف لموسى سر ما فعل وسر ما لم يصبر عليه موسى اذ رأي ما يخالف الشريعة وهو النبي الحامل للشريعة، وهكذا تحدث العبد الصالح لموسى السفينة التي خرقتها لم اكن اريد اغراق اهلها او هلاكهم، على العكس من ذلك، كان وراءهم ملك يريد ان يخوض حرباً وكان ينوي مصادرة كل السفن الصالحة للابحار ومن بينها هذه السفينة التي كانت لمساكين يعملون في البحر «فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا» فلا تصادر مع السفن الصالحة، ثم يعاود اصحابها اصلاحها ويعملون عليها ويكسبون لقمة العيش.
كان ظاهر ما رأيت ايذاءاً واهلاكاً لكن باطن ما رأيت هو اللطف والرحمة.
اما الغلام الذي اهتزت مشاعرك لقتله وظننت ان وراء قتله شيء نكراً، هذا الغلام في حقيقة الامر طاغية وكافر، هو في نظرك غلام بريء بيد انه طاغية وكافر بأعتبار ما سيكون حين يكبر وابواه مؤمنان وكان سيرهقهما طغياناً وكفراً، فشاء الله تعالى موته ليريح ابويه منه ويهبهما بدله ابناً باراً، وهكذا انقذ الله الابوين وانقذ الغلام من نفسه فهو قد هار الى الرحمة اذ مات وهو غلام لانه لم يرتكب بعد ما كان سيرتكب وقد نجا جميع الاطراف رغم انك تظن ان جميع الاطراف قد هلكوا، هلك الولد بالموت، هذا ما رأيته يا موسى ولكن الحقيقة انه نجا بالموت ولن يحاسب على ما لن يفعل، مات وهو غلام بريء، اما الابوان فقد حزنا كثيراً وبكيا كثيرا ووراء حزنهما وبكائهما كانت ترقد شمس الفرح والابتسام، اجل كان ما رأيت هو الظاهر المرئي لكن المعرفة الواقعية تقول انه عكس الحقيقة، «وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا» وقد اراد الله ان لا يهدم الجدار فيظهر الكنز ويأخذه اهل القرية، اراد ان يحتفظ لولدي الرجل الصالح بالكنز، ويتقدم العبد الصالح خطوة في تعليمه لموسى (عليه السلام) فيكشف له سر ما حدث «رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ» كل ما رأيت من صور الاعتداء او القتل او وضع الشيء في غير موضعه لم يكن الا رحمة من الله تبارك وتعالى، حتى مآسي الوجود وكوارثه هي اقنعة للكوارث والمآسي والباطل العميق هو الرحمة، واضاف العبد الصالح «وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي» لم يكن هذا رأياً رأيته ولا كان اقتناعاً بشيء او معرفة لشيء او تطبيقاً لشيء انما كان امراً من الله عزوجل.
في هذه الحوادث الثلاث التي شهدها موسى مع العبد الصالح نلاحظ عزيزي المستمع ان هذا الرجل العالم البصير قد استخدم ثلاث تعبيرات للارادة في ضمن كشفه عن اصرار ما فعل وعن تأويله، قال عن السفينة «فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا» وقال عن الغلام «فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ» وقال عن الجدار واليتيمين «فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا» نلاحظ ان العبد الصالح اول الخضر (عليه السلام) قد ارجع الارادة الى نفسه في حادثة السفينة والى الله سبحانه ضمناً في حادثة الغلام والى الله صراحة في حادثة الجدار واليتيمين.
ترى ما الذي تعنيه هذه القصة وما الذي تريد ان تقوله لنا؟ لا يملك العقل سوى التوقف امام هذه القصة، قصة موسى والعبد الصالح والسفينة والغلام والجدار هي قصة من اعجب قصص القرآن الكريم ونريد بالعجب هنا ما اشار اليه الجن حين قالوا «إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا» فلم يستخدم غير اولئك الجن هذا عن القرآن، واستخدمه تلميذ موسى حين قال عن الحوتس الذي ارتد الى الحياة «وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا»، وتصور انت يا اخي ان يصف الجن وهم عجب خفي في حد ذاته القرآن بأنه عجب، ان تحيرهم امام آياته ودهشتهم ازاءها يعني ان ما فيه من اسرار قد هيمن عليهم واخضعهم.
*******