لحوادث قصة لقاء النبي موسى (عليه السلام) والعبد الصالح معاني ودلالات عميقة اشرنا الى طرف منها في لقاء مضى، من معاني هذه القصة ان في الدنيا حوادث يختلف ظاهرها عن باطنها، فالظاهر يبدو فاجعة في حين ينطوي الباطن على الرحمة وكل انسان يصيبه شيء كأن تخرق سفينة عيشه او يقتل له طفل او يموت له احد او يرى العبث يملأ الحياة من حوله، اي انسان يقع له شيء من هذا فما عليه الا ان يمضي الى مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ كما فعل موسى من قبل ليقف هناك وسوف يقرأ في اسرار الموج عناية الله ورحمته تبارك وتعالى.
الرحمة الالهية معنى من معاني القصة وفي القصة معاني اخرى، من معانيها ان العلم على ثلاثة انواع:
اولها: علم البشر المألوف الشائع الذي تكسبه بالجهد والتعلم مثل الصيد والزراعة والصناعة.
وثانيها: علم الانبياء الذي يوحيه الله سبحانه لانبياء بواحدة من الطرق الثلاث.
وثالثها: العلم اللدني او علم اسرار الوجود، الفرق بين العلوم الثلاث هائل، وعلم الانبياء هو الشريعة التي يريد الله عزوجل من عبادة اتباعها والسير على هداها وهو يختلف عن العلم البشري في تنزهه عن الاجتهاد والبحث والجهد والخطأ، والعلم الخاص الذي يلقى من لدن الله جل جلاله الى بعض عباده هو علم بالحقائق الكامنة وراء الظاهر المألوف، فالعبد الصالح او الخضر (عليه السلام) كان ممن القي اليه من هذا العلم الخاص المغيب عن سائر الناس والغيب علم لا يعرفه سوى الله عزوجل ومن يشاء اطلاعه من عباده عليه سواء كان هؤلاء العباد من الملائكة او من الانبياء او من الاولياء او سواهم ممن يشاء قال تعالى «عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا، إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ»، وكشف الغيب هبة من الله تعالى يمن به على من يشاء من عباده واحياناً يكشف الله طرفاً من الغيب في كتب الانبياء كما وقع في الكتاب المنزل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) في سورة الروم التي تضمنت بياناً لقضية مستقبلية وقعت بعدئذ «الم، غُلِبَتِ الرُّومُ، فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ، فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ» كانت هذه النبؤة كشفاً لطرف من الغيب للمسلمين وكان هذا الكشف يتم علانية في كتاب الله المنزل الكريم، احياناً يطلع الله عباده على جانب من الغيب علناً كما رأينا في سورة الروم واحياناً يطلع الله عباده سراً كما حدثنا في قصة موسى والعبد الصالح وهذا العلم هو الله سبحانه يمنحه بأقدار متفاوتة لبعض عبادة تحقيقاً لحكمة عليا.
ان هذه القصة التي وردت في سورة الكهف هي نبع يستمد منه اصحاب القلوب هذا البحر الغامض البعيد المنطوي على اسرار هو حلم المتطلعين الى المعرفة الهابطة من فوق، ويتكرم الله عزوجل على اصحاب القلوب التي لا تشهد غيره ولا تحب سواه بأن تكشف لها اسراراً من الاسرار ربما منع الله تعالى او منح، ربما قبض علمه او بسط علمه، مشيئته سبحانه وتعالى مطلقة نافذة والمنع والمنح ليسا من جهد العباد وانما هي محض فضل من الله.
ان انكار هذا النظر واستبعاد وجود عباد يفتح الله عليهم ببعض اسراره يعني انكاراً لآيات بينة صريحة من القرآن الكريم والفارق بين العلم البشري وعلم الشريعة وبين علم الاسرار هو الشيوع والذيوع اذا انتشر العلم وذاع كان علماً بشرياً او علماً من علوم الشريعة طبقاً لنوعه، اما العلم الخاص فمن صفاته الكتمان والصمت.
لقد كان العبد الصالح عنيفاً مع موسى حين سأله ان يعلمه ولم يستطع موسى ان يصبر على هذا العلم رغم انه موسى، لقد ارسل سبحانه وتعالى موسى لفرعون وهو يعلم انه سيصبر على فرعون ويهزمه وأرسل الله تعالى موسى لهذا العبد الصالح وهو يعلم انه لن يصبر عليه وسيهزم صبره ولو صبر موسى على العبد الصالح لعرفنا اسراراً كثيره ولكن الله تبارك وتعالى لم يشأ ان نعرف اكثر مما عرفنا ولم يشأ سبحانه ان يعرف موسى اكثر مما عرف ومعنى هذا اننا امام علم لا ينكشف الا بقدر محدود ولا يمنح الا بحساب.
ان التجربة الروحية الاصيلة المتجهة الى عوالم الغيب تقوم على الحب والحب نسيج اصيل في الكون وسر غائر من اسراره، والقرآن يذكر كلمة الحب وفعلها وينسبها الى الله تجاه البشر وينسبها الى البشر ازاء الله جل وعلا، قال تعالى على لسان خاتم النبيين محمد (صلى الله عليه وآله) «قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ» وقال عزوجل حاكياً عن موسى«وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي» وقال سبحانه مخاطباً المؤمنين «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ» ويقول الله تعالى «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ» والعباده قمة من قمم الحب وكمال من كمالاته.
وورد عن ابن عباس تفسير كلمة العبادة بالمعرفة والمعرفة لازمة للحب هي سبب الحب ومن عرف الله اكثر احبه اكثر ومن لم يعرف عن الله الا القليل كان حبه على قدر معرفته.
نلاحظ هذه الآية الكريمة «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ» نريد ان نلاحظ هنا ان الله تبارك وتعالى لا يخوف الذين يرتدون عن دينهم بأن يلقيهم في النار او يصب عليهم عذاب الجحيم بما فيه من نحاس مصهور، نريد ان نلاحظ ان الله يخوف المرتدين بالحب «فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ» يستبدل بهم قوماً يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ، والارتداد عن الدين شرك والشرك فساد في العقل الذي جوهرة شريفة في الانسان وكأن الله تعالى يهدد اقسى الذنوب وارهبها بأرق ما في الوجود واعذبه وهو الحب.
يقول جلال الدين الرومي: ان كلمة يُحِبُّهُمْ يقين كامل اما كلمة يحبونه فمن يصدق عليه هذا الوصف؟ لعل عبارة جلال الدين الرومي تشير الى معنى بالغ العمق، ان الحب عطاء وتكرم والله هو الذي يملك العطاء والكرم وهو الذي يتفضل بالحب، اما كلمة يُحِبُّونَهُ، اما الحب البشري في ارفع صوره فماذا يستطيع ان يفعل؟ لو اعطى الانسان وقته لله فالوقت ملك لله اصلاً، لو قدم الانسان كل ما له لله، فالمال وديعة الله عند عبده، لو فرق الانسان جسده في سبيل الله شظايا فهذا الجسد ملك لله، هو خالقه وموجده والواهب له، لا يملك الانسان ان يعطي من معنى الحب سوى شاطئه، اما الله عزوجل فهو المعطي الوهاب حقاً، الحب قانون حاكم في الوجود وسبب في ميلاد الكون ونسيج تشف به الحياة على رحابتها ووسعتها وجلالها ، وقد خلقنا الله ليتفضل علينا بحبه ويتفضل علينا مرة ثانية بان يسمح لنا ان نحبه.
*******