في قصة موسى والعبد الصالح التي وردت في سورة الكهف من القرآن الكريم آفاق كثيرة مثيرة، انه دخول في عالم الاسرار التي هي رشحة من رشحات العلم الذي يلقبه الله تعالى من لدنه الى من يشاء من عباده وهذا العلم النفيس الخاص يتعدا الطور الظاهري للاشياء ليغور في اعماق المعاني الباطنية الحقيقية التي تغات الشكل الظاهر والمعرفة الظاهرية وربما تصادمها وتلغيها، قصة اللقاء الخاص في ظرف خاص بين نبي الله موسى وبين العبد الصالح عرفنا مقدماتها في لقاءنا السابق، كان المكان شاطيء البحر المضبب بشيء يشبه السر، ليس هناك بحر واحد بل بحران يلتقيان في نقطة تجمع بينهما هي مجمع البحرين، هذا نبي الله موسى بن عمران ومعه فتاه في رحله على شاطيء البحر يقصدان مجمع البحرين وموسى لا يكف عن البحث عن شيء موعود هنا في هذا المكان.
نقرأ آيات سورة الكهف الخاصة بهذا البحث وهذا الترحال على الشاطيء «وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا، فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا، فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا، قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا، قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا، فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا».
بعد حادثة نسيان الحوت او السمكة المشوية المعدة لطعامهما وتسربها الى البحر وعودتها المعجزة الى حياتها البحرية العادية وجد موسى ما كان يبحث عنه وموسى هو كليم الله ونبي من كبار اولي العزم لم يكن يرى وهو بهذه الاوصاف ان هناك من هو اعلم منه فهو حامل الرسالة والمبلغ عن الله عزوجل وكان فقدان السمكة ايذاناً بالعثور على الرجل الحامل للعلم اللدني الا عمق والاكثر يقيناً «فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا» وربما احس العبد ان موسى قد فوجيء فعاد يحدثه عن بديهية مفترضه «وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا» ان الصبر يكون حيث تعرف اقدار الاشياء ويكون حين تفهم اخبار الاشياء، ولن احدثك عن اسرار الاشياء ولهذا لن تصبر عليها.
عاد موسى يقول بأسلوب يشي بالرغبة والالحاح «قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا» خضوع مطلق من تلميذ لن يعصي للاستاذ امراً، ووعد في نفس الوقت بالصبر، والصبر هنا هو احتمال ما لا يفهم، ويضع الاستاذ شروطه «قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي» عن شيء حتى احدثك انا، وافق موسى على الشرط وبدأ رحلته مع العبد الصالح «فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا» ركبا في سفينة، رحبت بهما وابا صاحبها ان يتقاضى منهما اجراً لانهما غرباء وفوجيء موسى حين غادرها صاحبها، فوجيء ان العبد الصالح الذي جاء ليتعلم منه منهمك في خرق السفينة واتلافها، بل انه قد خرقها فعلاً وغلبت موسى طبيعته المندفعة في الحق وحركة غضبه على الخطأ فأنطلق يقول للعبد أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا؟ «لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا»، يتهم موسى العبد بأنه ارتكب خطأ بالغاً فهو يرد على احسان اهل السفينة بالايذاء وهو يعرضهم للغرق بفعلته، وينظر العبد الصالح الى موسى ولا يزيد على ان يقول له «قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا» ويعود موسى الى الاعتذار «قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ» وبعد الاعتذار رجاء بأن لا يرهقه العبد الصالح من امره عسراً، لقد نسي وهذه هي المرة الاولى ليسامحه هذه المرة، ويعاود موسى مصاحبته للعبد «فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا فَقَتَلَهُ».
كان تصرف العبد الصالح هذه المرة في غاية الغرابة، نحن امام جريمة قتل وهي جريمة شاهدها موسى واندهش لها دهشة عميقة وثار بسببها ثورة عميقة وكان بطلها هذا العبد الصالح فهو بطل القصة وهو الذي ورد في الروايات انه الخضر (عليه السلام)، نحن اذن امام رجل اتاه الله من علمه اللدني الخاص الذي قلنا عنه انه يتعامل مع الحقائق الباطنية للاشياء وربما خالف الظاهر المكشوف المألوف.
منذ اول اللقاء وقف موسى من العبد الصالح موقف المتعلم امام المعلم وموقف المتلقي في قبالة الاستاذ الكبير، ومنذ اول عبارة نطق بها نبي الله موسى قدم الطاعة والاتباع لهذا الرجل الصالح العالم على سؤال التلمذة والتعلم، وفي هذا من معاني التواضع والادب ما لا خفاء فيه «قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا» السؤال من موسى سؤال جدير، ان يثير دهشتنا، ان موسى كما يصورها الحق تبارك وتعالى في القرآن رجل قوي عنيف سريع الغضب، انه يتدخل في مشاجرة فيدفع بيده رجلاً فيقتله وهو حين القى العصا من يده فصارت حية اصابه الروع فولى هارباً كما في تعبير القرآن، وهو حين عاد يحمل الواح التوراة ووجد قومه قد تحولوا الى عبادة العجل ثار ثورة هائلة والقى الواح التوراة من يده وامسك برأس اخيه هارون ولحيته معنفاً، «قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي» ولو عرفنا قائل هذه الكلمات لادركنا مدى ما كان عليه موسى من الغضب، قائل هذه الكلمات هو هارون النبي الكريم وشقيق موسى بل ان موسى ظل غاضباً فترة وعبر القرآن عن هذا الغضب بصورة فنية في غاية الروعة في قوله تعالى «وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ» ان موسى هذا النبي القوي السريع الغضب يتحول امام الرجل الصالح العالم الى شخص آخر فيحدث العبد الذي عثر عليه بأنه يريد ان يتبعه ويريد ان يتعلم على يديه ورغم هذا السؤال الهاديء الدمث نرى العبد الصالح يجيب موسى اجابة لا تخلو من العنف «قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا» بهذه الجملة السريعة ينبه العبد النبي موسى الى حقيقة الفرق بين العلم البشري المألوف والعلم اللدني الخاص، فالعلم اللدني ثقيل ولن يصبر عليه موسى وهو من ثمة لن يصبر على اتباع هذا العبد الصالح، هو نفس البطل الذي خرق السفينة وعاد موسى يوجه حديثه اليه«قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا» وعاد العبد الصالح يلفت موسى الى جملته الاولى التي قال له مرتين قبل ذلك «قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا» وطلب موسى فرصة اخيرة يثبت فيها صبره وقدرته على التعليم من هذا الاستاذ الغامض «قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْرًا».
*******