لعل بعض الناس يتردد حين يقال ان الحضارات الانسانية قاطبة قد اعتمدت في اصولها ونشأتها على اسس دينية ذلك ان الدين في الواقع كان هو المحرك الاساس للثقافة والمعرفة ونمط الحكم في الحياة السياسية ونشؤ الحضارة، وهذا الدين قد يكون من امتدادات الرسالات النبوية من عند الله عزوجل الذي عرفنا في القرآن الكريم انه «وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيهَا نَذِيرٌ»، وقد يكون خليطاً من بقايا دينية اصيلة وابتداعات ارضية خاطئة الصقت بالدين لاي سبب من الاسباب، كما قد يكون هذا الدين مما دخل فيه نتاج من رؤية مغبشة مشوهة اصطنعت هيكلاً بعيداً عن الاصل وغريباً عليه لكن اصحاب هذه الرؤية يعدونه ديناً يلتزمون به ويحافظون على شعائره، حتى الحضارة المادية الغربية التي تحكم الان في اوروبا وامريكا قد كانت لها جذور دينية في عهود المسيحية الغابرة ثم تنكرت للاتجاه المسيحي في التفكير واستقلت بمناهجها التي لا تعدم بين وقت وآخر ظهور مفكر يستند الى الرؤية الدينية على نحو من الانحاء اما الماركسية الالحادية التي تجاهر الدين بالحرب والبغضاء فهي على قول احد المفكرين ليست الا تعبيراً عن ازمة للمسيحية وهكذا ترى ان الدين بأي شكل من اشكاله الذي كان وراء انبثاق الحضارات المختلفة على الارض سواء كان ديناً الهياً خالصاً ام مشوباً بشوائب الخرافية وفي هذا من الدلالة على فطرية الدين في النفس الانسانية وعلى فاعليته في الحياة ما لا يخفى.
والملاحظ ان كثيراً من المؤلفات الغربية حول الحضارات والمعارف الانسانية هي مؤلفات منحازة مصابة بداء التصعب الذميم وهي عامدة في اخفاء الحياة الدينية القديمة في الشرق حتى لو كانت مشوبة بشوائب دخيلة.
ان جل المؤلفين الغربيين الذين تحدثوا في مؤلفاتهم عن تاريخ الفكر وتاريخ الفلسفة هم بين متجاهل للفلسفة الشرقية تماماً وبين من يكتفي بنبذة موجزة عن اهم الاتجاهات والمدارس في الفلسفة الهندية والصينية القديمة مع اغفال النتاج الفكري والحكمة المصرية، وعند سكان الرض الرافدين القدماء كل الاغفال او انهم يذكرونها في افضل الاحوال بصفحة او فقرة واحدة او سطور قليلة، وحجة هؤلاء المؤلفين المتحيزين هي ان هذه الحكمة لا تؤلف نسقاً مترابطاً يشبه المنظومة الواحدة في بعض المدارس الفكرية في الهند والصين وانها لا تسمو الى مستوى التفكير المنهجي الذي امتاز به اليونان وحاول هؤلاء المؤلفون ان يؤكدوا استقلاله عن الاعتقاد الديني والتعبير الشعري الوجداني.
ان الانسان على نحو عام قد بدأ يفكر تفكيراً دينياً كونياً اي منذ البداية كان له اهتمام متميز بالتفكير في حقائق الولادة والموت والمصير وعن اسرارها كما فكر في القوة الغيبية التي توجه العالم وتحرك الاقدار وفكر ايضاً في قواعد السلوك الصحيح وفي الفعل الاخلاقي والنافع وذلك قبل ان يسأل بطريقة نظرية مجردة عن طبيعة الوجود او طبيعة المعرفة ومجالاتها وحدودها.
واذا كان كل مفكر وكل عصر يقدم اجابات ما عن الاسئلة الكبرى المتعلقة بالوجود والموت والحرية والخير والشر وسواها من الموضوعات فقد قدم حكماء بابل ايضاً اجاباتهم، صحيح انها صيغت بلغة شعرية ومجازية مختلفة عن لغة المقالة البرهانية لكن هذه لا يسوه تجاهلها واخراجها عن دائرة الفكر والتفلسف بمعناه العام، بمعنى انها لم تصب في قالب القياس المنطقي الصارم.
ومع هذا فلا تعدم ان تجد مؤرخاً للفكر الشرقي له جانب من الانصاف، نستمع الى شهادة في هذا السياق يقول صاحبها: لا يوجد في هذا العالم انسان يمكنه الاعتقاد بأن اليونان وروما وشعوب اوربا في العصور الوسطى والحديثة هم وحدهم ارباب التفكير الفلسفي ففي جهات اخرى من الانسانية سطعت عدة مواطن للتفكير المجرد وظهرت اشعاعاتها جلية وانتشرت في شتى الانحاء ولما كانت هذه المواطن غير منفصلة عن بعضها كما ظن في الماضي، توجب الاعتراف بأن تفكير الغرب لا يكفي نفسه بنفسه وان تفسيره التاريخي يتطلب اعادة وضعه في وسط انساني واسع النطاق وان التاريخ الصحيح هو وحده التاريخ العالمي ولم يعدم التفكير المصرفي او الفلسفي في الشرق القديم من يحاول انصافهم بين مؤرخي الفلسفة الغربية انفسهم، واوضح الامثلة تلك المقدمة التي كتبها اميل بيريه في كتاب ماسون بورسيل الذي اقتبسنا منه السطور السابقة والذي قصد به ان يكون تصديراً لتاريخ الفلسفة الذي الفه بيريه وتتمة له وهو يعترف بأن عزل التراث الغربي عما اثر عن الشعوب الشرقية من معارف وتفكير معناه الحكم على الغربيين بعدم فهم التراث الفلسفي والغربي نفسه ويرى انه من الممكن الاقتراب من اصول التفكير الشرقي لادراك الظروف والشروط المشتركة للفكر الاوربي والاسيوي وفهم الحركات الكبيرة التي جابت العالم من احد طرفيه الى الآخر، وهنا يشهد بيريه عدة حقائق ساطعة منها تفجر الروح الشرقية عند بعض الفلاسفة السابقين لسقراط وعند افلاطون نفسه منها الاصل السامي لمعظم الفلاسفة الرواقيين ومنها الجو الديني الذي نمت فيه الافلاطونية المحدثة وغزو المذهب المانوي الايراني الاصل والتنائي الزراد شتي قبله للعهود الاولى من الفكر الغربي ومن ثم يكون من السذاجة الظن بأن كل هذا مرجعه الى تقدم العبقرية الاغريقية تقدماً منطقباً حتمياً.
ثمة نقاط ثلاث جديرة بالتأمل يشير اليها بيريه:
اولها: ان الادراك الواضح للروابط والعلاقات المتماثلة بين المذاهب والاراء في الشرق والغرب لا يتم عن طريق الحكم المتعسف على اوجه الشبه بينها بل يكون عن طريق الصلات التاريخية المؤثرة والقابلة للدراسة والتمحيص.
وثاني: هذه النقاط فهي ضرورة الاعتراف اضافة الى العناصر المشتركة التي انتشرت هنا وهناك بوجود عناصر اخرى ذات اصالة جذرية تجعلها غير قابلة للانتقال من حضارة الى اخرى واذا كان بيريه يمثل لذلك بأصالة الفكر الهندي والصيني القديم فأن فكر وادي الرافدين او المصري القديم لا يقلان عنهما اصالة وخصوصية.
والنقطة الثالثة: الجديرة بالانتباه هي ان الوثائق والاسانيد التي يعتمدها الباحثون في حضارة الشرق لا يمكن ان تقارن من حيث طبيعتها الوثائق والاسانيد التي يستخدمها مؤرخو الفلسفة الغربية فالاولى هي اقرب الى التي يستخدمها الانثروبولوجيون ومؤرخو الاديان والعلوم والفنون والصنائع من طقوس دينية واحتفالات واختراعات فنية وسواها مما يساعد على القاء الضوء على تفكير الاقدمين من سكان ارض الرافدين ومصر وايران وعلى ما في هذا التفكير من فلسفة ضمنية والامر لا يختلف تقريباً فيما يتصل بالشعوب الاكثر تطوراً في الهند والصين، وثمة مسألة مهمة دقيقة وهي ان القواسم المشتركة للتفكير الشرقي والغربي لا تنفي وجود تفرد وخصوصية شرقية في طريقة النظر والاستكناه الروحي ولعل هذا هو السبب في لجوء مؤرخ الفكر الشرقي الى استخدام كلمات اوسع معنى واكثر ابهاماً من كلمة فلسفة المحددة بتاريخها العقلي والمنهجي منذ اليونان الى اليوم وهي كلمات الفكر او الحياة الروحية او الحكمة.
*******