في ضمن تحليل ما يسمى بظاهرة الطغيان الشرقي القديمة برزت آراء لتفسيرها منها التفسير الذي ذهب اليه المفكر الالماني الاصل كارل فدفوجل مستهدفاً بيان العنصر المشترك بين المجتمعات الشرقية القديمة وهو القوة الاستبدادية للسلطة السياسية في منطقة الشرق، وقد رأينا في اللقاء الماضي ان فدفوجل هذا اقام تفسيره هذا على وجود المجتمع الزراعي الاروائي وما يتطلبه الارواء من ضرورة شق الانهر وتوفير الماء في نطاق واسع مما يتطلب قيام سلطة مركزية مستبده تقوم بمهمة توصيل المياه من النهر الى الارض وحماية الاراضي الزراعية من غوائل الفيضانات وتوفير مياه الري في اوقات الجفاف مما يعني شق الترع واقامة الجسور ثم بناء الخزانات والسدود واقرار نظام شامل للري يسري في طول البلاد وعرضها، ومن الطبيعي ان هذه المهمات الكبيرة التي لا تتحقق بالجهد الفردي او بجهد جماعة قروية بل لابد من جهد كبير على مستوى الدولة ويتخذ اشكالاً كثيرة ابتداءاً من اعمال السخرة الى نظام التعاون وهكذا يقتضي نظام الري الموحد قيام سلطة سياسية مركزية استبدادية تحولت الى ما سمي بأسم الطغيان الشرقي.
ويمضي فدفوجل في بيانه فيقول ان هذا الاستبداد المائي قد اضطر الى ان يحكم معتمداً على العقاب استناداً الى الاعتقاد بأن الابرياء او غير الاثمين من البشر هم افراد قليلون والعقاب هو وحده الذي يحكم الكائنات البشرية وهو وحده الذي يحميها جميعاً فالعقاب يراقبهم حتى وهم نيام اذ ان العقاب في الواقع هو الملك.
وينتقل فدفوجل الى الحديث عن السلطة المقدسة التي اضفاها طغاة الشرق على انفسهم ليبرروا مسائلة الناس وعقابهم فقد زعم حكام بلاد ما بين النهرين انهم استمدوا سلطتهم من انليل العظيم رئيس مجمع الالهة السومري الذي قام بتنظيم الكون في زعمهم واستخرجه من لجة العماء، ويرمز هذا الاله عندهم الى سلطة القوة والقهر والارادة المقدسة، ومن هنا فأن أية معارضة من جانب الافراد ينبغي ان تسحق تماماً فلا سبيل امام الرعية سوى الخضوع والاستسلام وعلى الرغم من ان انليل يفترض فيه ان يستخدم جبروته بطريقة قانونية مشروعة فأن المرء لا يرتاح لهذا الاله لانه يشعر دائماً ان العقاب يترصده ومن هنا يبدو ان استعداد الحاكم للتوحيد بين ذاته وبين الاله انليل او الالهة المنحدرة من صلبه ذو مغزى عميق ولهذا الف ملوك سومر ان يوحدوا مباشرة بينهم وبين انليل لما يمثله من رعب ولما يثبه من خوف في قلوب الناس.
كذلك كان الرعب في رأي هذا الكاتب ملازماً للاستبداد عند الفراعنة وهو رعب ترمز اليه الافعى السامة اوريوس التي ترقد ملتفة حول جبهة الملك وتهدد اعداءه بالدمار، اما في الصين القديمة فقد كان فن ادارة الحكم فيها يعبر عن استمرار عن حاجته الى العقاب المخيف وقد ظل هذا الرعب اساساً في السياسة الرسمية طيلة الحكم الامبراطوري حتى ان ما نسميه نحن الان بوزارة العدل كان يسمى في التراث الصيني وزارة العقوبات.
وهذه العقوبات لم تكن تعني العقوبات الاخلاقية او الادبية التي تلجأ الى ضمير الفرد بل كانت عقوبات جسدية تستخدم لغة السياط وتلجأ الى الجلد والضرب والاصفاد والاغلال، يقول فدفوجل كانت لغة السياط هي اللغة المستخدمة بأنتظام في دولة السخرة في سومر القديمة كما ان جميع الموظفين الرسميين في دولة الفراعنة كانوا يستخدمون العقاب البدني وتدل السجلات في مصر القديمة على ان الموظفين الذين وكل اليهم الاشراف على المشروعات العامة كانوا يسيرون والعصا في ايديهم وفي اماكن اخرى كانت الطريقة المؤكدة لحث الناس على العمل الجاد هو تهديدهم بالضرب، كما كان الامتناع عن دفع الضرائب منذ الفراعنة يواجه بعنف وقسوة.
وتخبر مقطوعة هجائية شهيرة من المملكة الحديثة ان الفلاح المصري الذي يخفق في تسليم حصته من الغلال كان يضرب ويقيد ويطرح في القناة، هذا الرعب الشامل كان على اعضاء المجتمع المائي ان يشكلوا سلوكهم بحيث يتفق مع مطالب الدولة اذا ارادوا ان يكتب لهم البقاء فأنه لا ينبغي لهم اثارة الوحش الذي لا قبل لهم بالسيطرة عليه وهكذا تبرز ظاهرة الطاعة للحاكم وتصبح سمة المواطن الصالح في الطغيان الشرقي الطاعة على كل حال وبدون نقاش.
وهكذا يقع الفرد فيما بين النهرين في مركز تحيط به مجموعة من دوائر السلطة المختلفة وتشكل الدائرة الاقرب الاصغر السلطة في الاسرة، سلطة الاب والام والاخ الاكبر والاخت الكبرى وليست الطاعة المطلقة هذه سوى بداية للطاعات المطلقة الاخرى في الدوائر الاوسع بما فيها دائرة الدولة ودائرة المجتمع، كما كانت الحكمة في مصر القديمة تربط عن قصد بين الطاعة في المنزل وطاعة السلطة الحاكمة فالابن المطيع هو الذي ستكون له مكانة حسنة في قلب الدولة وسوف يلقى حديثه قبولاً طيباً لدى من يتحدث معه وموضوع الخضوع في الهند للسلطات الدينية والدنيوية يعززه موضوع الخضوع في العلاقات الشخصية وتعني الطاعة اساساً طاعة المعلم والاب والام والاخ الاكبر.
وتصف الكونفوشية الصينية ولاء الابناء بأنه الاعداد الفريد للطاعة المدنية فهناك قلة ضئيلة ممن يسلكون سلوكاً صالحاً وطيباً مع والديهم واخوتهم الاكبر سناً ويمكن ان تعمل على معارضة رؤسائهم.
وهكذا يكون الهدف الاسمى للتربية في حكومات الطغيان الشرقي المفارقة لرسالات الانبياء (عليهم السلام) هو تعليم الفرد ان يطيع بغير سؤال ومناقشة كلما طلبت منه السلطات المستبدة امراً، وتطورت هذه الطاعة في بعض العصور فظهرت بصيغة سجود للحاكم كما حدث في الصين ابان حكم اسرة تشو ثم انتشر في جميع المراحل التالية من تاريخ الصين وكان من المألوف في العهود الكلاسيكية عند هندوسية الهند احتضان قدم الشخص للتعبير عن الاحترام الكبير والتقدير العظيم وكان الاقتراب من الملك يتخذ مظهر الشخص الذي يصلي على طريقتهم في الصلاة وفي الحقبة الاخيرة من الهندوسية كانت ايماءة الخضوع الشامل تؤدى امام الحاكم وتكشف الوثائق في العصر الفرعوني ان البلاد كلها تنبطح على بطنها عند ما يظهر الملك اما الرعايا المخلصون فقد كان يزحفون على بطونهم لكي يتنشقوا عطر الملك.
ومن المنتظر ان تؤدي الخصائص المذكورة بالفرد في المجتمع المائي الى العزلة والانفراد وهي عزلة يولدها الخوف والرعب الذي يعيش فيه فالفرد لا يجد امامه سوى الخضوع المطلق كرد حذر ووحيد على السلطة المطلقة وهذا من شأنه ان يقود الى حدوث كارثة اخلاقية حيث تنتشر مجموعة كبيرة من الرذائل.
ان السلطة في المجتمع المائي تستقطب العلاقات الاجتماعية ايضاً فالرعايا الذين لا يملكون اية سيطرة على حكوماتهم لابد ان يخافوا من الدخول معها في اي صراع لكي لا تسحقهم تماماً بل ان هذه القوة المخيفة لا تستطيع تدمير القوة المعارضة غير الحكومية فحسب بل في امكانها ايضاً ان تبتلع الاعضاء في الجماعة الحاكمة بما في ذلك الحاكم نفسه فتلقي بظلال كيئبة من الشك والقلق وربما لا تجد شيئاً يدمر الحياة كما تفعل حالة فقدان الامان التي يولدها استقطاب السلطة المطلقة ولهذا فأنك تجد شعار الحاكم هو «لا تثق بأي انسان ابداً» ان هذا الطاغية المستبد يحسده اقرب المقربين اليه ولذلك يتطلع كثير منهم الى السلطة ويتحرق ظماءاً للاستيلاء عليها، هذه اخوتنا الاعزاء اطراف من الصورة التي رسمها فدفوجل للطغيان الشرقي ومهما يكن في هذه الصورة من زيادة او نقصان فهي تصور الوضع الانساني السياسي الذي يغيب فيه منهج العدل الالهي الذي بشر به الانبياء وحمله الاوصياء (عليهم السلام) بما فيه من احترام كرامة الانسان وتوحيد الطاعة لله سبحانه وهذا الكلام كا ينطبق على المجتمعات الغابرة ينطبق على المجتمعات الحاضرة في الشرق والغرب على السواء.
*******