مر في القرن الثامن الهجري رجل وهبه الله تبارك وتعالى مزايا انفرد بها عن كثير من الناس ففاز بصفاء في القلب وبصيرة في الادراك ورؤية واضحة للدين في المعتقد وفي التشريع، مع وصل رائع بين مفردات الشريعة والمعتقد التوحيدي، كل ذلك بأسلوب تربوي يراد به الهداية والتبصير انه السيد حيدر الاملي الذي خطت انامله مؤلفات تربو على الخمسة والثلاثين في موضوعات مهمة فيها تفصيلات ذات شأن ويخبرنا العدد القليل مما وصل الينا من مؤلفاته عما في داخل هذا الرجل من عمق ومن صدق مع وضوح في التعبير وقصد الى ايصال معاني الهداية التوحيدية الصافية الى الناس.
في اللقاء السابق عشنا يا اخي المستمع الكريم دقائق مع السيد حيدر الاملي في لغته وفي مضمون معاينه وهو يتحدث عن التوحيد الالهي الساري في كل مظاهر الوجود، قال لنا السيد حيدر الاملي في كتابه جامع الاسرار ومنبع الانوار ان التوحيد جميع الموجودات مجبولة عليه، مخلوقة لاجله وقال ان جميع الانبياء والاولياء (عليهم السلام) ما بعثوا الا لاظهار التوحيد ودعوة الخلق اليه وان كل المقامات الظاهرية والباطنية منوطة به وانه اصل الدين والاسلام وسبب الجنة والنار، وقد فصلنا القول في اللقاء السابق عن تأسس السموات والارض على «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» وان فطرة كل شيء ناطقة بالالهية والربوبية لله جل جلاله وان كل ما في العوالم مستغرق لله تعالى بالتسبيح.
وفيما يتصل ان الانبياء والاولياء (عليهم السلام) ما جاءوا الا لاظهار التوحيد ودعوة الناس اليه فقد كتب هذا المتفقه المتبصر رضوان الله عليه بالنسبة الى الانبياء (عليهم السلام) نقرأ قوله تعالى: «شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ»، والدين هو التوحيد ومعناه ان اقيموا على التوحيد الذي هو الدين الالهي والطريق الحقيقي والصراط المستقيم «وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ» لانه هو الاصل الموصى به جميع الانبياء والاوصياء (عليهم السلام) وبالنسبة الى الاولياء نقرأ قوله تعالى: «فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ» الى قوله: «ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ»، اما ما يقصل بالملائكة فقوله تعالى: «وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ» وبتوادم جميعاً جل قوله عزوجل: «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى»، وبالنسبة الى جميع الكائنات والدواب والطيور فقوله تعالى «وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ»، اما الافلاك والاجرام السماوية والمعادن والنيات وسواها فيشهد لتوحيدها قوله عزوجل «كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ» ومعلوم ان الصلاة والتسبيح لا يكونان الا بعد المعرفة بالخالق الموجد.
ويواصل السيد حيدر الاملي ان كل احد يعرف بنفسه ويدرك بعقله انه لو لا الدعوة الى التوحيد والاسلام ما ظهر احد من الانبياء والاولياء (عليهم السلام) في هذا العالم الكدر المظلم ولوساعة واحدة ولهذا قال العالم الرباني علي بن ابي طالب حين ضربه ابن ملجم: «فزت ورب الكعبة» وقال في موضع آخر: «والله لابن ابي طالب انس من الموت بالطفل بثدي امه» ويشهد بأن الانبياء والاولياء ما بعثوا الا لاظهار التوحيد ودعوة الخلق اليه قوله تبارك وتعالى: «وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ» وعن مجموع هذا كله اخبر مولانا وسيدنا جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) بقوله في دعاءه: «واسالك بتوحيدك الذي فطرت عليه العقول واخذت به المواثيق وارسلت به الرسل وانزلت به الكتب وجعلته اول فرائضك ونهاية طاعتك فلم تقبل حسنة الا معه ولا تغفر سيئة الابعده»، واما بيان ان مدار جميع الكلمات واساس جميع المقامات مبني على التوحيد فيشهد له قوله تعالى «وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ» اي من اراد غير الاسلام والتوحيد الذي هو الدين الحقيقي والطريق الالهي المشتمل على الايمان والايقان والتسليم والتصديق ديناً فلن يقبل منه اي لن يحصل له عند الله قدر، لا دنيا ولا اخرة ويكون من المطرودين الملعونين.
ولمزيد من التبسيط كتب هذا الرجل البصير: ان الكمالات والمقامات كلها على قسمين ظاهراً وباطناً، الكمال بحسب الظاهر هو تحصيل العلوم الدينية والعمل بمقتضاها وهذا لا يحصل بدون التوحيد والشرع في الاسلام فيكون حصوله موقوفاً عليه بالضرورة:«لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ» واما الكمال بحسب الباطن فهو تحصيل العلوم الحقيقة ولعمل بمقتضاها وهذا ايضاً لا يحصل بدون التوحيد الخالص والشروع بالاسلام الحقيقي كما اشار اليه بقوله تعالى: «فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا» وهذا خطاب عام الى المسلمين كافة على التأكيد والشرط ومعناه انه يقول، كل من يرجو منكم لقاء ربه اي وصوله اليه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه احداً اي يعمل عملاً خالصاً من الشرك الخفي الذي هو الرياء في الشرع ولا يشرك بعبادة ربه التي هي التكاليف الشرعية احداُ من المخلوقين بأظهارها له على سبيل الرياء او في التوحيد الوجودي بمشاهدة الغير الذي هو اعظم الشرك واكبر الكبائر لانه بمثل هذا العمل لا يصل الى الله تعالى ولا يجد لقاءه ابداً.
والغرض ان كمال الباطن لا يمكن حصوله الا بالخلاص من الشرك الخفي الذي هو بأزاء التوحيد الوجودي كما ان كمال الظاهر لا يمكن حصوله الا بالخلاص من الشرك الجلي الذي هو بأزاء التوحيد الالهي، قال تعالى: «وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ»اشارة الى الشرك الخفي واليه الاشارة ايضاً بقول النبي (صلى الله عليه وآله): «دبيب الشرك في امتي اخفى من دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء» وهكذا ينتهي بنا السيد حيدر الاملي رضوان الله تعالى عليه الى خالص التوحيد ونقي الاسلام وهو امر ربما يكون ميسوراً لنا اذا عقدنا مع الله العزم للمضي في طريق النقاء والصفاء وتخلينا عن هوى الاهواء والميول العكرة التي تنئى بنا عن نزاهة الحياة الانسانية المعافاة وتجعلنا قابعين في سجن المادة الاسود، ان الامر لا يحتاج منا الا عزمة صادقة واقبال قلبي على معاني الحق والخير والصفاء وحينئذ سنجد للحياة طعماً آخر ملأه البصيرة والمحبة والاشراق.
*******