يعانى الفكر السياسي فيما يعنى بدراسة اشكال انظمة الحكم وقد تعرفنا في لقاءات ماضية على شكل حكم الدكتاتور والطاغية الذي يعد اسوء هذه الاشكال.
وكان لحكم الطاغية تاريخ حافل سواء كان في الشرق او في الغرب وقد ظهرت نظرية الحق الالهي المباشر في الحكم تعبيراً عن اضفاء السمة الدينية على الحاكم لضمان طاعة الناس في كل ما يأمر به الطاغية وما ينهى عنه، ثم تراجعت هذه النظرية قليلاً بسبب الظروف البشرية المستجدة فظهرت نظرية الحق الالهي غير المباشر التي تدعي ان الله هو الحاكم وهو الذي يوجه ارادة الناس لاختيار الحاكم المرضي الذي ينفذ المشيئة الالهية وكان هذا كله في تاريخ المسيحية الكاثوليكية، اما البروتستانتية فلها ايضاً تبرير للطغيان والمقدمة التي يبدأ منها تحليلهم زعماء البروتستانتية هي التي اكدها مارتن لوثر وجون كالون في القرن السادس عشر، فما هي مرتكزاتهما في الدعوة الى اطاعة الحاكم المستبد؟
خلاصة هذه الفكرة هي ان الطبيعة البشرية طبيعة فاسدة تصدر عنها الشرور في العالم الارضي اما ما يصدر من اعمال صالحة فهي ترجع الى الله تعالى منة منه وهبة للانسان والبشر كافة مشتركون في ذلك ولا يشفع للانسان امام الله سوى شيء واحد هو الايمان الذي هو هبة من الله ولايد للانسان في صنعه، وهكذا يكون الانسان عند الزعماء البروتستانت موجوداً ساقطاً خلق في الاصل على صورة الله ولكن تمرد وعصى خالقه ودنس هذه الصورة بسقوطه، ومن هنا غدا هذا الكائن الذي كان يراد منه في البدء الاستمتاع لصحبة الاله غدا غريباً عنه ولهذا السبب حلت الفوضى محل النظام الذي كان يسود الكون لاسيما الارض التي هي مسكن الانسان، وبدلاً من الانسجام والوئام حل الصراع والنزاع وبهذا اصبح هذا الانسان الساقط ينتمي الى مملكتين يتضح في احداهما الفساد والخطيئة الي مملكة الارض وفي الثانية النور والطهارة التي يحاول الوصول اليها وهي مملكة الروح وهذا الوصول يتعذر بدون معونة الله.
وتواصل هذه النظرية البروتستانتية ومادام الانسان قد اغترب عن الله وعاداه فقد غدا بحاجة الى كوابح وضوابط اذا اريد للحياة في هذا العالم ان تكون محتملة او ممكنة وذلك ان غرور الانسان او انانيته هي التي قطعت صلة المحبة لله وهي انتجت جذور النزاع والصراع والعداوة بين الناس واذا كان العقل والضمير في انسجام فسوف تكون التربية كافية ولا تغدو ثمة من حاجة الى القهر او القسر، لكن لما كان الانسان الساقط لا يعرف الا القليل عن الله وعن العدالة وعن الخير ومادام قد رفض السير على هدي البقية الباقية من النور الكامل في داخله فأن الاكراه والقسر سيكون حاجة ضرورية للحياة الاجتماعية والسياسية.
ويتايع زعماء البروتستانت، ولما كان البشر بطبيعتهم آثمين خطائين فلابد لهم اذن في هذه المملكة الارضية من انسان يرغمهم على الطاعة يبررون طاعة السلطة التي يرونها هي خير في ذاتها وهي الركيزة الوحيدة التي تقوم عليها الحياة السياسية والاجتماعية المستقرة الامنة.
ان الانسان عزيزي المستمع والقول لاصحاب هذه النظرية لم يكن بحاجة الى حكومة عند ما كان في حالة البراءة والبساطة الاولى ولكنه بعدما هوى وتمرد احتاج الى من يقوم بألجامه وضبطه بالقيود.
يقول نص لهم يفسر هذا اللجوء الى الالجام والتقييد لانه ما لم يكبح جماح هذا الانسان فأنه سيفوق في وحشيته كل الحيوانات المفترسة صحيح ان الاكراه قمع لسلوكه وقيد على تصرفاته لكنه في الوقت نفسه حد من ارتكاب الخطايا ومحاولة دائمة لتذكيره بالطبيعة الالهية للقانون الخلقي بأعتباره الوسيلة التي يقدم يها الله رحمته للناس ويضفي بركاته على الحياة الاجتماعية الصالحة، الدولة اذن هي خادم الله الذي على الارض وهي قائمة للتعبير عن عناية الله بالبشر لعقاب الشرير وحماية الصالح ولرخاء الكنيسة، والقول ان السلاطين موجودون على الارض يعني في هذا التصور البروتستانتي ان الله هو وضعهم في مناصبهم فهم لهذا جديرون بالطاعة والاحترام.
ويبرر مارتن لوثر الطغيان في ضمن آراءه السياسية ذلك انه يعتقد ان فساد الطبيعة البشرية امر لا مفر منه وهذا الفساد يتزايد حتى يغدو هائلاً ومريعاً مع تزايد الاعداد البشرية بحيث يكون الفساد مرعباً مع التجمعات البشرية وبهذا يقدم لوثر حجة دينية قوية تصب في منفعة حكم الفرد المستبد، يقول لو كان لابد لنا من معاناة الالم فخير لنا ان نعانيه على ايدي الحاكم من ان نعانيه على ايدي رعاياهم ذلك ان الرعاع لا يعرفون الاعتدال ولا يعرفون حداً، ان كل فرد من الغوغاء يثير من الالم اكثر مما يثيره خمسة من الطغاة ولهذا يقول مارتن لوثر كان من الافضل ان نعاني الالم من الطاغية او من الحاكم المستبد على ان نعانيه من عدد لا حصر له من الطغاة الغوغاء، ويذهب لوثر الى انه لا يمكن للجماهير ان تكون مسيحية ولا ان تكون عاقلة لان الايمان والعدالة والعقل انما تنتمي الى الفرد لا الى الغوغاء التي تميل الى التطرف في كل شيء وهو يذكر الارهاب ويبرره ايضاً، يقول في هذا الشأن ان اليد التي تحمل السيف وتذبح ليست يد الانسان بل هي يد الله ان الله هو الذي يشنق ويعذب ويقطع الرأس«جل الله عما يقول هذا يتحمل او زار الظالمين» كان مارتن لوثر يؤكد بمناسبة ودون مناسبة واجب الطاعة العمياء للحاكم حتى لو كان طاغية فهو ينص على انه ليس من الصواب ان يقف اي مسيحي ضد حكومته سواء كانت افعالها عادلة ام جائرة والعصيان خطيئة اكبر من القتل والسرقة وخيانة الامانة وكل الرذائل.
كان هذا تفسير مارتن لوثر اما معاصره جون كالون فمذهبه في تبرير الطغيان السلطوي يستند ايضاً الى الفكر الغالطة عن فساد الطبيعة البشرية اذ يرى انه لابد والحالة هذه ان يقيم الحاكم نظام من الضوابط ويذكر في صدد الانتخابات للدولة انها ليست سوى محاولة للتعرف على ان الله رفع شخصاً مناسباً الى منصة الرئاسة فالسلطة والسلطان يزعم انهما ينبعان من الله وليس من الناخبين، وهو يجمع بين التسلط وطاعة الطاغية والاهداف الدينية للكنيسة عندما يقول ان الغرض من الحكم الزمني هو ان نشجع ونساند العبادة لله وان ندافع عن المذهب الخالص ومركز الكنيسة ومن الاهمية بمكان ان يضع الملوك نصب اعينهم ان الواجب الاول للحكم هو المحافظة على العبادة واقتلاع الوثنية ويقصد بالوثنية كل دين غير المسيحية واقتلاع التجديف والزندقة من جذورها، وهكذا عزيزي المستمع نجد اراء كالون السياسية شديدة الرجعية والتخلف فهي تؤكد بأستمرار على واجب الطاعة العمياء للحاكم اذ الحاكم في نظره نائب لله ومقاومته هي مقاومة لله ويواصل كالون مثل هذه الافتراءات على الله فيذكر ان الحاكم السيء هو عقاب للناس على خطاياهم لان الخضوع ليس لشخص الحاكم بل للمنصب الذي هو المنصب الالهي اما الاعتراض على الحاكم فينظر له هذا القائد البروتستانتي ايضاً بما يخدم الحاكم الجائر ويحافظ على تسلطه على الرقاب بحجة الحق الالهي في الحكم، يقول كالون انه من العبث ان ينازع الرجل العادي الذي ليس من واجبه الحكم فيما هو افضل الاحوال للدولة فأذا كان هناك شيء يحتاج الى تصحيح فليقله لمن هو فوقه ولا يصح ان يتولى العمل بنفسه وليس له ان يفعل شيئاً بغير امر من يعلو في مرتبته وهكذا تتكامل هذه النظرية التي صيغت لخدمة الطاغية ولتجعل من سياسته في الارهاب عملاً دينياً الاهياً يتحتم على عامة الناس ان يقابلوه بالاذعان والتسليم وهذا استخفاف بين للانسان وتلاعب بالقيم الدينية لمصلحة الطغيان.
*******