في الفكر السياسي الذي طرحه افلاطون كتابه الجمهورية تظهر احاديث عن نمط من الشخصية في الحياة السياسية التي امتدت من بعد في التاريخ ولا تزال الى وقتنا الحاضر تلك هي شخصية الطاغية، ويصور افلاطون كيف يندفع الطاغية الى انسان عادي اولاً لا سلطه له يندفع نحو الرغبات الهوجاء فيتولد في نفسه حب جارف يستجيب للرغبات المتطرفة، وعندئذ تحتل هذه الرغبة الموقع الرئيس في النفس وتتخذ من الجنون زعيماً لحراستها وتثور ثورة هو جاء فأذا صادفت بعض الرغبات او الانظار العاقلة التي ما يزال فيها بقية من حياة فأنها تقتلها او تطردها بقسوة حتى تتخلص النفس من كل اعتدال وتدعو الجنون لكي يحل محله وهكذا يغدو المرء الطاغية جامعاً بين صفات السكير والعاشق والمجنون.
ويتحدث افلاطون عن حياة الطاغية على انها سلسلة من اعياد اللذة والمآدب والعشيقات وغيرها من الانحرافات المنحلة التي لا تعرف المباديء والقيم واشباع هذه الرغبات المنوعة المتجددة كل يوم يحتاج الى مال وانفاق وسرعان ما تنضب موارده فيبدأ بالاقتراض فيبدد ميراثه فيجري هنا وهناك كالمجنون باحثاً عن صديق او جار يملك شيئاً يأخذه منه بالخديعة او بالاكراه ولكي لا يذهب صاحب هذه الشخصية ضحية آلامه المبرحة وهمومه الثقيلة فأنه يرى ان عليه ان ينهب من كل مصدر، سوف يبدأ بالبيت فيدعي انه قيم على ابيه وامه فينهبهما بعد ان يكون قد بدد نصيبه من اموالهما فأن لم يستسلم الابوان لمطالبه لجأ الى السرقة او الخداع ثم الى العنف ليسلبهما ما يملكان فأن تمسكا بموقفهما واصرا على مقاومته فأنه يحجم عن سلوك الطاغية الذي لا يرحم ابداً ولا يقيم وزناً للقيم والاخلاق انه لا يتورع عن ضرب امه او الاساءة ابيه المسن وتتكدس الرغبات في نفس الابن الطاغية فيحاول اولاً ان ينقب جدار البيت او يسرق عابر سبيل في جمع الظلام او ان ينهب المعابد.
كان هذا الشاب قد ولد من اب عادي وكان الشاب خاضعاً في البداية للقوانين ولسلطة ابيه ولم تكن رغباته المنحرفة وافكارة السيئة تنطلق من عقالها الا في اثناء النوم اما بعد ان تحول الى طاغية مستبد فأنه يغدو طوال حياة اليقظة ذلك الرجل الذي كان يجده في احلام نومه اي ان القوى غير العقلانية هي التي طغت على سلوكها وسيطرت على تصرفاته ربما كان في السابق يحلم انه يسرق او يقتل او يرتكب فعلاً فاضحاً ام الان فأنه يستبيح لنفسه اراقة الدماء واكل اي مال حرام وارتكاب اي سلوك شائن.
مثل هذه الشخصية البهيمية او الحيوان الاكبر كما يسميها افلاطون لن يصادق الارفاق السوء ولهذا لا نندهش اذا وجدنا اعوان الطاغية يمارسون مجموعة من الجرائم البسيطة كالسرقة والسلب وثقب الجدار واغتصاب اموال المارة وثيابهم وبيع الاحرار على انهم عبيد واذا كانوا يجيدون الحديث احترفوا الوشاية وشهادة الزور والاتهام الكاذب مقابل رشوة وهذه الجرائم توصف بأنها بسيطة قياساً الى الجرائم القادحة التي يرتكبها الطاغية فهذه الاثام والجنايات كلها لا تكاد تذكر في مقابل ما يجلبه الطاغية على البلاد من بؤس وبلاء ودمار.
ويشير افلاطون اشارة نافذة الى ان هؤلاء الاعوان يمكن ان يوجدوا الطاغية، يقول اذا وجد في الدولة عدد كبير من هؤلاء الناس ومن اتباعهم وشعروا بقوتهم فأن هؤلاء معتمدين على غباء الشعب يمكن ان يكونوا الطاغية فينتقونه لانه الشخص الذي تنطوي نفسه على اكبر قدر من الطغيان وعندئذ اما ان يستسلم له الشعب الطواعية او يعمل هذا الطاغية الذي لم يتورع عن ايذاء ابيه وامه على معاقبة قومه ان قدر على ذلك فيدخل بينهم عناصر جديدة من بين انصاره المقربين ويخضع لهم اهله الذين كانوا من قبل اعزاء لديه والذين هم شعبه فيجعلهم عبيداً لهؤلاء الاغراب وهكذا تصل رغبات الطاغية الى اكتمال تحققها.
ان هذا الطاغية اعتاد قبل ان يستولي على السلطة ان يختلط بالمنافقين الوصوليين الذين هم على استعداد لخدمته في كل شيء فأذا كان هو في حاجة الى خدمة يؤديها له شخص آخر فأنه يقف امامه في مذلة الكلب الخاضع متظاهراً بالاخلاص حتى اذا قضى منه مقربه ادار له ظهره، وهكذا نرى الطغاة طوال حياتهم حسب تعبير افلاطون لا يجيدون لهم صديقاً وانما هم اما متسلطون مستبدون واما عبيد خاضعون اما الحرية والصداقة الحقيقية فتلك نعمة لا يذوقها الطغاة ابداً، ترى كيف يكون حال الدولة التي يمسك بزمامها هذا الشخص الذي هو نوع من الحيوان وكيف يكون حال الدولة اذا ظالت مدة رئاسته لهذه الدولة، انه لا يتقاعد ابداً فهو اما ان يموت او يطيح به شخص آخر.
ويقول افلاطون انه كلما طالت مدة ممارسته للطغيان ازدادت هذه الصفات الطاغوتية تأصلاً فيه.
الدولة ومن يقودها عزيزي المستمع متشابهان وكل منهما يتبين من خلال احوال الاخر والدولة التي يحكمها طاغية لا يمكن ان تكون حرة بل هي مستعبدة الى اقصى حد، ويضيف افلاطون اذا كانت الدولة مشابهة للفرد فلابد ان يتغلغل هذا الاستعباد والمذلة الى نفس الطاغية ايضاً فتراه يحمل نفساً وضيعة الى ابعد حدود الوضاعة بل تهبط اشرف اجزاء نفسه الى ادنى مرتبة من مراتب العبودية علماً بأن اخس هذه الاجزاء هو الذي يصبح مسيطراً على تصرفاته وسلوكه.
ومن هنا يقول افلاطون كانت النفس التي يسيطر عليها الطغيان لا تفعل ما تريد هي وانما هي مدفوعة دائماً لقوة الجوانب الوضيعة منها واذن فالنفس الطاغية لابد ان تكون فقيرة هزيلة يستبد بها الرعب وتعاني الالام والانين والشكوى والتذمر وهذه عبارة افلاطون «فقيرة هي النفس التي تنظر الى باطنها فتجد خواء فتمتد الى خارجها لتقتني ما يسد لها هذا الخواء» وماذا تقتني انها تتصيد اناس اخرين ذوي نفوس اخرى لتخضعهم لسلطانها، انها علامة لا تخطأ في تمييز اصحاب النفوس الفقيرة من سواهم فحيثما وجدت طاغية صغيراً كان ام كبيراً فأعلم ان مصدر طغيانه هو فقر نفسه.
ان المكتفي بنفسه لا يطغى انما يشعر في نفسه بثقة واطمئنان ليس في حاجة الى دعم من سواه، وهكذا تكون النفس الطاغية فقيرة هزيلة ويكون الرجل الطاغية افقر واتعس الناس جميعاً لا يماثله في تعاسته سوى الرجل الذي وضعته الاقدار هو وزوجته واطفاله وعبيده في صحراء قاحلة لا يجد فيها عوناً من احد فيعيش في حالة من الرعب والهلع الشديد مترقباً على الدوام ان يقوم عبيده بأغتياله هو واطفاله وزوجته فيضطر الى تملق عبيده واستمالتهم بالوعود، ومن هنا يظل الطاغية حبيس حشد هائل من المخاوف والرغبات. ومرة اخرى ان ذلك كله يجعل الطاغية اتعس الناس قاطبة بل ان تعاستة هذه تجعله يفيض طغياناً على كل من حوله.
*******