في تصنيفه لانواع انظمة الحكم يتحدث ارسطو طاليس عن نظام حكم الطاغية بأعتباره اسوء اشكال الحكم التي عرفها البشر واوغل في الرذائل والبعد عن الحياة الانسانية والطغيان في تعريف ارسطو صورة من صور الحكم الفردي عندما يتحول الى حكم رديء ينفرد الحاكم للسلطة بلا حسيب ولا رقيب ولامسؤولية من اي نوع فالحاكم هو السيد الاوحد الذي يحكم لمصلحته الشخصية ولاهدافه الخاصة فلا يتحمل وجود مواطنين انداد له او يفضلونه انه يصل الى السلطة بقوة السلاح ويغتصب الحكم اغتصاباً دون ان يكترث برضى المواطنين.
ارسطو يعتقد ان الطغيان هو اسوء اشكال الحكومات كلها واشد ضرراً على الناس وان الطغاة قد نشأوا في اجواء اجتماعية متدينة ثم استحوذوا على السلطة وقد تكون للطاغية نشأة اخرى تهيأت له الظروف فيها للامساك بقبضة حديدية على مقدرات المواطنين والبلاد، ويعتمد الطاغية في حراسته وحمايته على المرتزقة الاجانب وعلى مواطنين مرتشين يعطيهم مناصب ووظائف لم يكونوا يحلمون بها، ان الطاغية كما يقول ارسطو يدفع لكي يحمي نفسه، ويتصف الطاغية بعدم ثقته بالشعب ولهذا يفزع من امتلاك الشعب السلاح ثم هو يقف من الشخصيات المشهورة والاعلام البارزين موقف العداء ويدبر الخطط السرية والعلنية للقضاء عليهم او الايقاع بهم وتشريدهم كخصوم سياسيين مناهضين للحكم وقد تناقل الطغاة طيلة القرون هذه الفكرة وهي ضروره التخلص من العناصر البارزة في المجتمع.
وفي موضوع ما يتخذوا هذا النوع من الحكام للمحافظة على كرسي السلطة يتحدث ارسطو عن وسيلتين في هذا الصدد وهما وسيلتان متناقضتان تماماً وقد ذكرنا في لقاءنا السابق للوسيلة الاولى بشيء من التفصيل اذ رأينا ان الاساليب التي يعمل اليها الطاغية لحفظ عرشه ما يزال يتوارثها الطغاة الى اليوم وينتهجها معظمهم في تدبير شؤون سلطاتهم.
من اساليب هذه الوسيلة الطاغوتية عزيزي المستمع تدمير روح المواطنين وغرس الشك وانعدام الثقة في نفوسهم ليألفوا حياة الخسة والذل والهوان والعيش بلا كرامة ومن اساليب الطاغية في حفظ سلطته القضاء على الرجال البارزين واصحاب العقول الناضجة والمفكرين الاحرار وكذلك خطر التجمعات والنوادي وجعل التعليم نوعاً من الدعاية للحاكم ومن هذه الاساليب الذميمة بث الجواسيس ورجال الامن والمباحث والعيون بين الناس ليطلع الطاغية واعوانه على كل ما يجري في البلاد مع اثارة خوف الناس من الحديث السياسي في المحافل العامة اتقاءاً للاذان المبثوثة من حولهم، ثم هناك اسلوب الاغراء بأن يشي بعض المواطنين لبعض مما ينجروا الى انعدام الثقة بين الاخ واخيه والصديق وصديقة ومن كل طبقات الشعب واخيراً يقرر ارسطو طريقة افقار الناس من قبل الطاغية لينشغل المواطنون بالبحث عن قوت يومهم وتوفير اللقمة لاطفالهم فلا يجدون وقتاً كافياً حسب تعبير ارسطو للتآمر على الطاغية وقد يلجأ الحاكم المستبد الى اشعال الحروب لالهاء المواطنين على نحو دائم ولاشعارهم بحاجتهم الى الحاكم الذي يدافع عن البلاد.
ان السمات الرئيسة للطاغية في رؤية ارسطو هي بذر بذور الشقاق وسلب الثقة فيما بين المواطنين ومبدأ الطاغية هو ان الناس جميعاً يودون الاطاحة به ولهذا السبب يختار هذا الحاكم الفاسدين من البشر في نظام حكمه ليكونوا اصدقاء له فهم عبيد التملق والنفاق والطاغية يأنس بالمداهنة وينتعش بالنفاق ويريد من يتملقه ويتزلف اليه ومن دأب الطاغية انه لا يحب رجلاً ذا كرامة او رجلاً شريفاً ذا روح عالية او صاحب شخصية مستقلة وهو يكره جميع الاخلاق الشريفة لانها اعتداء على سلطانه ومن عادة الحاكم الطاغية ان يفضل صحبة الاجانب والغرباء على صحبة مواطنية ولهذا يدعوهم الى مائدته والى لقاءه ويأنس بهم في حياته اليومية، وهكذا يصبح المواطنون اعداءاً والاغراب ندماناً واصدقاءاً.
الاساليب السابقة تمثل عند ارسطو الطريقة الاولى التي يلجأ اليها الطاغية للمحافطة على حكمه وهي الطريقة الاكثر شيوعاً وهي كذلك الاكثر كلفة في الشرق، ان جميع الاساليب التي ذكرها ارسطو قد عرفناها وخبرناها طيلة تاريخنا حتى ان الواحد منا عندما يقرأها او يسمعها يحس ان ارسطو يصف له ما يدور في العالم المعاصر لا سيما في المجتمعات ذات الحكم العسكري ولكن هناك طريقة اخرى اقل شيوعاً من الطريقة الاولى تسير في خط مضاد تماماً، كان ارسطو قد ذكر ان احدى وسائل تدمير النظام الملكي هي ان يتحول الملك الى طاغية وهذا يعني ان من الطرق التي يحافظ بها الطاغية على نظام حكمه هي ان يتحول الطغيان الى طبيعة النظام الملكي نفسه لا الى شخص الحاكم اي ان يظل الطاغية محتفظاً بالسلطة في حكم رعاياه رغماً عنه لكنه يسلك سلوك الملك الحق او على الاقل ان يتظاهر بمزايا الملك الصالح لكنه يمارس طغيانه في الخفاء مثلما يشاء متستراً بالدفاع عن المواطنين الذين يرهقهم نفس النظام.
هذه النظرية في الحاكم الطاغية، نظرية ارسطو، ذات اهمية في الفكر السياسي اذ هي ذات صيغ عملية في الحياة السياسية منذ القديم وحتى عصرنا الحاضر وقد ترددت عند كثير من الفلاسفة والمفكرين السياسيين في الفكر الاوروبي بعد ارسطو فنحن امام فيلسوف خبر الطغيان سواء كان طغيان الفرد او الجماعة حتى انه هرب من اثينا بعد موت الاسكندر عندما اضطربت المدينة وسيطرت عليها موجة عاتية من المد الشعبي الذي هيمنت عليه الدهماء وسفلة المجتمع.
لقد وصف ارسطو سمات الحاكم الطاغية وصفاً دقيقاً تفصيلاً مفرقاً بينه وبين النظام الملكي وهي تفرقة ظل يرددها الملوك لا سيما ملوك انجلترا بعد ذلك بحوالي عشرين قرناً فزعموا ان الملك يعمل للمصلحة العامة في حين لا يعمل الطاغية الا لمصالحه الشخصية كما ان ارسطو وصف الطغيان الشرقي بأنه النموذج الحقيقي للطغيان وهو وصف ظل يتكرر منذ عصر ارسطو الى يومنا هذا، حتى ان الاوربيين عندما يشتمون ملكاً او حاكماً للاستبداده يصفونه بأنه شبيه بالطاغية الشرقي ومع ذلك كله تظل ثمة ملاحظات، الاولى ان القول ان الطاغية يعمل لمصلحته الخاصة ينبغي ان يفهم فهماً مرناً فقد يعمل الطاغية في فترة لنزواته الشخصية ومتعه الحسية وقد يظهر بمظهر من يعرف كل اهتمامه للمصلحة العامة وهو ما قام به اكثر من طاغية بالفعل مادامت السلطة كلها بيده والثروة كلها تحت تصرفه والملاحظة الثانية ان المعيار في حكم الطاغية هو انعدام الرأي الآخر، ان المجتمع الذي يرتبط به الشعب بالزعيم الملهم ارتباطاً تبعياً هو مجتمع يحكمه طاغية بغض النظر عما يفعل لانه يقتل في النهاية انسانية الانسان ويدوس كرامته ويسحق وجوده انه يدمر روح المواطن على حد تعبير ارسطو ليحيل المجتمع الى مجموعة من النعاج تسهل قيادتها وقد حفل التاريخ بصور من هذا الطغيان عديدة.
*******