من المصطلحات التي شهدها الفكر السياسي الاوربي فيما يتصل بالطغيان مصطلح الحاكم المستبد المستنير او العادل، وقد ظهر هذا المصطلح حين استخدمه المؤرخون الالمان للدلالة على نظام معين للحكم في تاريخ اوروبا الحديث، ويكاد المؤرخون يجمعون الى اعتبار فريدريك الثاني او فريدريك الكبير ملك بروسيا في القرن الثامن عشر هو النموذج الاول للملك المستنير اذ كان يعتبر نفسه الخادم الاول للدولة ويتصرف وكأن عليه تقديم حساب عن عمله امام مواطنيه فيهتم بالاصلاح القضائي وباصلاح التعليم وتحسين اوضاع الفلاحين ولكنه في الوقت نفسه مستبد من ناحية اخرى فما من شخص او هيئة لها صلاحية او حق في مراقبة اعماله حتى انه قال لقد انتهيت انا وشعبي وارضينا جميعاً هم يقولون ما يشتهون وافعل انا ما اشتهي، لكن هذه الحرية في القول لم تكن كاملة قط ذلك ان فريدريك هذا لما ارتقى في مدارج الملك واتسعت سلطته حضر النقد العلني لتدابيره الحربية او مراسمه العزائبية وكان ملكاً مطلق السلطه وان حاول ان يجعل تدابيره متسقة مع القوانين وقد جهز فريدريك جيشاً للعدوان على النمسا لما مات امبراطورها مبرراً عدوانه هذا بأنه يملك جيشاً كان قوامه مئة الف رجل وعندما اعترض عليهم مستشاره بقوله ولكن هذا العمل سيعتبر عملاً غير اخلاقي اجابه فريدريك ومتى كانت الفضيلة عائقاً للملوك.
وكان فريدريك عزيزي المستمع يرى ان الانسان شرير بالطبع وكان يقول لمفتش التعليم انك لا تعرف هذا الجنس البشري اللعين الذي تحركه انانية خالصة ويجري وراء مصالحة ان لم يكبحه الخوف من الشرطة ويقول ديورانت عن فريدريك هذا انه كان في وسعه ان يناقش مع مساعديه قضايا فلسفيه وهو يرقب في هدوء جنوده وهم يعانون الام الجلد وكان لسانه لاذعاً يجرح حتى اصدقاءه احياناً.
واذا صيغت حالة فريدريك بمصطلح الطاغية الصالح او الخير فينبغي ان نواجه بالرفض منذ البداية فأذا كانت هناك فكرة واحدة في النظرية السياسية لاخلاق عليها فهي ان الطغيان هو اسوء انواع الحكم واكثرها فساداً لانه نظام يستخدم السلطة استخداماً فاسداً كما يسيء استخدام العنف ضد الموجودات البشرية التي تخضع له، وقد لاحظ ارسطو من قبل انه لا يوجد رجل حر قادر على تحمل مثل هذا الضرب من الحكم اذا كان في استطاعته ان يهرب منه، اجل فالانسان الحر لا يتحمل مثل هذه الاشكال التعسفية من الحكم الا مرغماً بحيث سدت امامه كل ابواب الانعتاق ولهذا فأنه يندر جداً ان يذكر الطغيان بطريقة فيها مدح وهكذا تبدو عبارة الطاغية الصالح او الطاغية الخير بالغة الغرابة ومثيرة للضحك والشيء نفسه فيما يتصل بالمستبد العادل حيث التناقض لاخفاء فيه.
انه اذا كانت كلمة الطاغية او المستبد تعني الحاكم الظالم او الحاكم الجائر القاسي واذا كان الطغاة في نظر البعض وحوشاً بشرية ظهرت في التاريخ وحكمت شعوبها بالحديد والنار واذا كان البعض الاخر يرى انهم اوبئة فكيف يمكن ان يوصف المستبد بأنه عادل وان يوصف الطاغية بأنه صالح والديكتاتور بأنه خير او مستنير، اذا كان من سمات المستبد ان يكون ظالماً جباراً كما يقول الكواكبي فكيف يمكن ان يكون المستبد عادلاً وكيف يمكن ان يكون مستنيراً من يرضى ان تكون رعيته كالاغنام.
لاشك اخي الكريم ان الاستبداد يهدم انسانية الانسان والطغيان يحيل البشر الى عبيد ومتى تحول الناس الى عبيد ارقاء او الى حيوانات فقدوا قيمتهم فلا اخلاص ولا امانة ولا صدق ولا شجاعة بل كذب ونفاق وتملق ورياء وتذلل ومداهنة ومحاولة للوصول الى الاغراض من احط السبل وهكذا يتحول المجتمع في عهد الطغيان الى عيون وجواسيس يراقب بعضهم بعضاً ويشي بعضهم ببعض وليس بخافي ما نراه في بعض دول الطغيان من اخ يشي بأخيه وجار يكتب تقارير عن جاره ومرئوس يكتب زيفاً عن رئيسه ونحن نعرف ان الطغاة والمستبدين كانوا طيلة التاريخ موضوعاً للكراهية والخوف ولم يكونوا ابداً موضوعاً للحب او الاعجاب وهم في عرف المفكرين السياسيين قدماء ومحدثين بدائيون من الناحية السياسية ومهما انجز الطاغية من اعمال ومهما اقام من رقي جميل في ظاهره فلا قيمة ابداً لاعماله اذ يكفيه انه دمر الانسان فماذا اقادت اعمال هيتلر وموسوليني وماذا كانت النتيجة غير خراب البلدين.
ولما كان الطغاة وحوشاً آدمية كما وصفهم البعض يدمرون الانسان ولا يتركون اثراً صالحاً، قضية منذ العهود القديمة وهي جواز اغتيالهم وظهر في الحياة الاوربية مصطلح خاص بذلك هو اغتيال الطاغية نادت به بعض النظريات السياسية الاغريقية والرومانية، وقد ظهر التساؤل حول اغتيال الطاغية في التاريخ اليوناني القديم نتيجة لما عانته اثينا من هذا الشكل السياسي بل انه عد في بعض الاحيان ضرورة او واجباً ونوقشت قضية اغتيال الطاغية كثيراً في العصور الاوربية الوسطى كما نوقشت خلال القرن السادس عشر فأن النزاعات التي كانت قائمة في القرن الثاني عشر بين الكنيسة والامبراطورية الجرمانية اجازت ذلك لمصلحة الكنيسة بأعتبار ان الطاغية هرطق او زنديق كما اجاز يوحنا السلسبوري اغتيال الطاغية يقول ان من يغتصب السيف فهو خليق ان يموت به، اما القديس توما الاكويني فقد دافع عن الطاغية واعلن حرمة اغتياله ثم قادت الملكية المطلقة المشرعين للوقوف بوجه اللاحوتيين الذين ينادون بجواز اغتيال المستبد وتبتت نظرية في هذا الشأن لاتنطبق الا على الحاكم المغتصب اي على عدو السلطة الملكية المطلقة.
اما في العالم الاسلامي فقد انقسم الموقف عزيزي المستمع قسمين الاول يقوده فقهاء السلطة ووعاظ السلاطين الذين يرون الرضا بالخليفة الظالم واقصى ما يمكن هو الصبر والنصح للحاكم الجائر الذي صار مستحقاً للعزل والموقف الثاني يرى وجوب الخروج عليه بالقوة ووجوب عزله واستبدال غيره به، ولم يعز على علماء السلطة ان يفتعلوا احاديث في وجوب طاعة السطان الظالم وتحريم الخروج عليه بل الحكم بقتل من يحاول الثورة والمعارضة للحاكم الجائر كما فيما وضعوه من حديث يقول انه سيكون هناءة وهنات فمن اراد ان يفرق هذه الامة وهي جميعاً اي على الخضوع للظالم فأضربروا عنقه بالسيف كائناً من كان وقد استخدم بنو امية مثل هذا الحديث الذي وضعوه لتبرير مقتل سيد الشهداء الامام الحسين (عليه السلام) وعليك عزيزي المستمع ان تلاحظ عبارة كائناً من كان في آخر هذا الحديث المفترى لترى انه مقصود ومراد للاشارة الى حركة سبط النبي (صلى الله عليه وآله) ضد الظلم الاموي البغيض وفي مثل ذلك تخدير لجماهير الناس وضمان لطاعتهم وفيه ايضاً محاصرة من يبتغي النهضة لازلة الظلم والطغيان وافراده في الساحة بعيداً عن تأييد الجماهير الخانعة الخاضعة، ومن هذا المنطلق المغشوش يرى ابن كثير ان معاوية بكل صيانته وتجبره وكفره الصريح يراه اماماً فاسقاً لكنه لا يجوز عزله ولا يجوز الخروج عليه وهكذا يجد الحكام المستبدون المنحرفون من الفقهاء من يسند حكمهم ويبرر جرائمهم مادام الحاكم يغدق هداياه وعطاياه.
*******