شاء الله تعالى لحوادث كربلاء ان تحفر في ذاكرة المسلمين حفراً عميقاً شاخصاً والى الابد فهذه الاحداث والارض التي جرت عليها هي حزمة واحدة في داخل الذهنية الاسلامية واسم كربلاء اسم مقصود له معنى وللمعنى حكمة ومن وراء الحكمة هدف، ذلك ان الكرب في معاجم اللغة هو الحزن والغم الذي يأخذ بالنفس فأذا كان هذا وقوداً لقاطرة فأن هذه القاطرة ستدخل الى دائرة البلاء من مدخل الامان، جاء في تفسير مجمع البيان البلاء على ثلاثة اوجه، نعمة واختبار ومكروه، قال تعالى: «لتبلون في اموالكم وانفسكم» يريد توطين النفس على الصبر وقال تعالى: «واذ ابتلى ابراهيم ربه بكلمات» اي اختبره بما تعبده به من السنن فأتمهن اي عمل بهن ولن يدع فهن شيئاً، والبلاء يكون حسناً وسيئاً واصله المحنة والله يبلو العبد بما يحبه ليمتحن شكره وبما يكرهه ليمتحن صبره قال تعالى: «ونبلوكم بالشر والخير فتنة» وقال: «يوم تبلى السرائر» اي تختبر السرائر في القلوب من العقائد والنيات وغيرها وما اسر واخفى من الاعمال فيتميز منه ما طاب وما خبث وقال: «ليبلوكم ايكم احسن عملاً» اي ليعاملكم معاملة المختبرين لكم والا فعالم الغيب والشهادة لا يخفى عليه شيء وانما يبلو ويختبر من تخفى عليه العواقب، وقوله: «ايكم احسن عملاً» لا يعني اكثركم عملاً ولكن اصوبكم عملاً وانما الاصابة خشية الله والنية الصادقة.
وسنة البلاء لا يستثنى فيها المؤمن والكافر والمحسن والمسيء وفي الحديث القدسي: «انما يعثتك لا تبليك وابتلي بك قومك من يتبعك ومن يتخلف عنك ومن ينافق معك» وهكذا تكون دائرة الكرب مدخلاً الى دائرة البلاء وهكذا كان الحدث الكربلائي كلة حكمة من وراءها هدف، لقد اراد الامام الحسين (عليه السلام) ان يقف في وجه اعداءه الجاهليين من بني امية وجنودهم آخذاً بكل سبب من الاسباب ولكن الله سبحانه وتعالى قضى ان تقطع الاسباب وان يقع على ارض كربلاء شهيداً ولا مثله جميع الشهداء، روي انهم تركوه نهاراً طويلاً ينوء بجراحاته التي ما خل امنها موضع من جسده المقدس ثم التفوا حوله بعد ان صعدت الروح المطمئنة الكبيرة الى باريها ونزل احدهم من على فرسه، قيل انه شمر بن ذي الجوشن وقيل انه سنان بن انس فأحتز الرأس المتأله العظيم ورؤوس بقية من قتل معه ومجموعها اثنان وسبعون رأساً وحملت هذه الرؤوس الطاهرة الى ابن زياد ثم بعث بها ابن زياد الى يزيد بن معاوية في الشام، وسلب سيد الشهداء (عليه السلام) ما كان عليه، سرواله وقطيفته ونعليه وسيفه ومال الناس على الورس والحلل والابل فأنتهبوها ومال الناس على حريم سيد شباب اهل الجنة وثقله ومتاعه فأن كانت المرأة لتنازع ثوبها عن ظهرها حتى تغلب عليه فيذهب به منها ووجد بالحسين (عليه السلام) حين قتل ثلاث وثلاثون طعنة واربع وثلاثون ضربة وامر الفاجر الليئم عمر بن سعد عشرة فرسان ان يدوسوا جسد الحسين (عليه السلام).
قال المؤرخون وكان هؤلاء العشرة من اولاد الحرام، وكان عمر الامام ابي عبد الله الحسين يوم قتل ثماني وخمسين سنة او سبعاً وخمسين وقتل معه سبعة عشر كلهم من ذرية الصديقة فاطمة الزهراء (سلام الله عليها) وجميع من قتل مع الحسين (عليه السلام) اثنان وسبعون رجلاً.
عن سلمى قالت دخلت على ام سلمة وهي تبكي فقلت: ما يبكيك؟
قالت: رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) في المنام وعلى رأسه ولحيته التراب فقلت: ما لك يا رسول الله؟
قال: شهدت قتل الحسين انقاً وكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد اعطى ام سلمة التربة التي اتى بهذا جبرئيل (عليه السلام) يوم ان اخبره ان امته ستقتل حسيناً وقال لها: اذا تحولت هذه التربة دماً فأعلمي ان ابني قد قتل، فجعلتها في قارورة، وفي رواية احمد بن حنبل فأخذتها ام سلمة وصرتها في خمارها وممكن ان تكون فعلت هذا وذاك لان الاخبار تكرر اكثر من مرة، وروى ابن كثير ان ام سلمة عندما نظرت الى التربة ووجدتها قد تحولت الى دماً بكت وقالت: قد فعلوها ملأ الله قبورهم او بيوتهم عليهم ناراً ووقعت مغشياً عليها وتوفيت ام سلمة رضوان الله عليها في نفس العام الذي قتل فيه الحسين (عليه السلام) وكانت محبة لاهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) واعطاء النبي التربة لها اشارة الى ان الله تعالى اخبره بأن حياتها ممتدة الى ان تسمع بهذه الاحداث فتبين الحقيقة في عالم خيم عليه الظلام.
عندما خرج الحسين (عليه السلام) كان خروجه من تحت مظلة المثل الالهي الاعلى وكان خصومه قد خرجوا من كهف المثل الشيطاني الهابط ولم يكن الامام نتيجة لوجود المجتمع الحر وانما خرج لخلق المجتمع الحر لان المجتمع الحر هو الذي يقيم الحضارة الحق والحضارة لا تقاس بسجومها وبريق ذهبها وانما تقاس بعد لها واستقامتها على منهج الحق، وعندما توجه الحسين الى الكوفة وعلم بمقتل رسله هناك وان الذين بعثوا اليه بالرسائل قد خذلوه لم يتراجع وسار في اتجاه الطريق الذي اخبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن مقتله فيه وذلك بعد ان حدد مصدر البلاء الذي اكره الناس على اقامة الحق والعدل، لقد توجه ابو عبد الله الحسين الى كربلاء ليس من اجل مقاومة الجماهير وانما من اجل مواجهة السلطة التي اتخذت مال الله دولاً ودين الله دغلاً وعباد الله خولاً، واصبحت تفرخ الذين يقرؤن القرآن لا يتجاوز تراقيهم اي تفرخ خوارج جدداً ولكن تحت مظلة بني امية، لقد اتجه الحسين (عليه السلام) نحو كربلاء وعلى امتداد الطريق كان يعلم انه يسير بين حراب الذين يكرهون ويخافون ان يفقدوا من يحبون ولكنه واصل المسير وحوله نداء خالد من الرسول الاعظم يقول فيه: «من حضره فلينصره»، وفيه ايضاً: «انا حرب لمن حاربتم» وكان الحسين في خطاه يقيم الحجة على كل صامت او متراجع او متردد اعتلالاً بفساد المناخ وسطوة القبائل وتقاليدها وقوانينها وتمادي الارهاب وقطع الرؤوس وقتل الاطفال والنساء كما فعل بسر بن ارطات وغيره من قبل، وعلى ارض كربلاء فاض الدم القاني الذي اراد صاحبه ان يخرج الامة من خيام القبائل حيث الحقد والحسد والارهاب الذي رفع بنو امية اعلامه زمناً طويلاً، انه من العدل ان يقتص الله الظالم ومن العدل ان دم القتيل لا يضيع سدى، ان ساعة الانتقام ومكانه وكيفيته هي في علم الله تعالى الذي اخبر عن مقتل الحسين وساعته ومكانه وكيفيته، لقد ركب اتباع بني امية بالسفينة التي ربانها معاوية ويزيد ومروان ولن يرى للسفينة شراع اذا ما قلب البحر الهائج سطحها، وقد عصفت به الرياح من اجل ان تستمر حركة الامواج في التاريخ وسيعمل ركاب السفينة عندئذ ما معنى نزول جبرئيل (عليه السلام) بخبر مقتل الحسين ومعناه في مقدمته ان هذه الجريمة النكراء عليها من الله عقوبة وعلى الجميع ان يأخذوا بأسباب السلامة حتى لا يدخلوا تحت العفوية واسباب السلامة اصل اصيل في دائرة الاختيار لكنهم صادروا السلامة واسبابها وصرخ فيهم صارخ لامناص من موت الحسين اذا نحن اردنا ان نعيش، وبين الامواج سيعلمون ان السماء عادلة وان القتل لا يمكن اخفاءه وسيخرج الزمان فعلتهم الغادرة الى الضوء لترى الاجيال ان الجراح مازالت تتفجر بالدماء، دماء تنادي بالحرية الحقيقية تحت مظلة العبادة الحق.
*******