وفي ما يلي النص الكامل لنداء الحج:
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد المصطفى وآله الطاهرين وصحبه المنتجبين.
نشكر الله العزيز الحكيم أن جعل مرة أخرى الموسم المبارك للحج ميعاداً للشعوب المسلمة، وشرّع أمامهم مسار الفضل والرحمة هذا. الأمة الإسلامية قادرة الآن على مشاهدة وحدتها وتلاحمها من جديد في هذه المرآة الشفافة والأبدية، وأن تشيح بوجهها عن دوافع التشتت والتفرق.
وحدة المسلمين هي إحدى الركيزتين الأساسيتين للحج، وعندما تترافق مع الذكر والروحانية - التي هي الركيزة الأساسية الأخرى لهذه الفريضة الزاخرة بالرموز والأسرار يكون بمقدورها إيصال الأمة الإسلامية إلى ذروة العزة والسعادة، وجعلها مصداقا لـ: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} (المنافقون، 8). الحج تركيب من هذين العنصرين السياسي والروحاني، ودين الإسلام المقدس مزيج عظيم وسامِ من السياسة والروحانية.
لقد بذل أعداء الشعوب المسلمة خلال الحقبة التاريخية الأخيرة مساعي ضخمة من أجل زعزعة هذين الإكسيرين الواهبين للحياة - أي الوحدة والروحانية - في أوساط شعوبنا. وهم يجعلون الروحانية باهتة اللون وبلا رمق عبر الترويج لنمط الحياة الغربية الفارغة من الروح المعنوية والمنبثقة عن قصر النظر المادي، ويجعلون الوحدة تواجه التحديات عبر نشر دوافع التفرقة الوهمية و تشديدها كالعرق واللون والجغرافيا واللسان.
الأمة الإسلامية التي يُشاهد الآن نموذجٌ صغيرٌ لها في مراسم الحج الرمزية ينبغي لها ان تنهض للمواجهة بكامل وجودها. أي ان تقوي ذكرى الله والعمل من أجله والتدبر في كلامه والثقة بوعده في ذهنيتها العامة من جهة، وتتفوق على دوافع التفرقة والخلاف من جهة أخرى.
ما يمكن قوله اليوم بشكل حاسم هو أن الظروف الحالية للعالم والعالم الإسلامي باتت مؤاتية أكثر من أي زمن مضى لإنجاز هذا المسعى القيم.
والسبب أولاً هو أن النخب والكثير من الجماهير الشعبية في البلدان الإسلامية التفتوا اليوم إلى ثروتهم المعرفية والروحانية العظيمة، وأدركوا مدى أهميتها وقيمتها. لم تعد الليبرالية والشيوعية اليوم - بصفتهما أهم تحفتين قدمتهما الحضارة الغربية - تملكان حضور ما قبل مئة عام أو الأعوام الخمسين الماضية. إن سمعة الديمقراطية الغربية القائمة على المال تواجه أسئلة حقيقية، والمفكرون الغربيون يقرون بإصابتهم بالتيه المعرفي والعملي، وفي العالم الإسلامي، يكتسب الشباب والمفكرون ورجال العلم والدين بعد رؤيتهم هذه الأوضاع، رؤية حديثة تجاه ثروتهم المعرفية وأيضا حيال المناهج السياسية الرائجة في بلدانهم. وهذه هي عينها الصحوة الإسلامية التي نردد ذكرها باستمرار.
ثانياً، هذا الوعي الذاتي الإسلامي أنشأ ظاهرة مذهلة وإعجازية في قلب العالم الإسلامي، إذ إن القوى الاستكبارية تواجه مأزقاً كبيراً في التعامل معها. هذه الظاهرة اسمها «المقاومة» وحقيقتها هي ذاك التجلي لقوة الإيمان والجهاد والتوكل، هذه الظاهرة هي نفسها التي نزلت في مرحلة صدر الإسلام حول إحدى نماذجها هذه الآية الشريفة: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل (173) فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم (174)} (آل عمران). والساحة الفلسطينية من التجليات لهذه الظاهرة المذهلة التي استطاعت جر الكيان الصهيوني الطاغي من حالة الهجوم والعربدة إلى حالة الدفاع والارتباك، وتمكنت من فرض هذه المشكلات السياسية والأمنية والاقتصادية الواضحة عليه الآن. كما يمكن مشاهدة نماذج لامعة أخرى للمقاومة في لبنان والعراق واليمن وبعض النقاط الأخرى بوضوح.
ثالثا، إلى جانب كل هذا ، يشهد العالم اليوم نموذجا ناجحا وتجليا شامخا من القوة والسيادة السياسية للإسلام في إيران الإسلامية، إن ثبات الجمهورية الإسلامية واستقلالها وتقدمها وعزتها حدث بمنتهى العظمة ومفعم بالمعاني وجذاب يمكنه أن يستقطب فكر ومشاعر أي مسلم يقظ ، وإن أنواع العجز والممارسات الخاطئة في بعض الأحيان والتي تصدر عنا نحن المسؤولين في هذا النظام التي أخرت الاكتساب الكامل لبركات الحكومة الإسلامية كافة، لم تستطع إطلاقاً زعزعة الأسس المتينة والخطوات الراسخة النابعة من المبادئ الأساسية لهذا النظام، وعجزت عن إيقاف التقدم المادي والمعنوي، وتقع على رأس القائمة لهذه المبادئ الأساسية: حاكمية الإسلام في تشريع القوانين وتطبيقها، والاعتماد على الآراء الشعبية في أهم شؤون إدارة البلاد، والاستقلال السياسي الكامل، وعدم الركون إلى القوى الظالمة، وهذه المبادئ هي القادرة على أن تحظى بإجماع الشعوب والحكومات المسلمة، وأن توحد الأمة الإسلامية في التوجهات وأنواع التعاون، وتجعلها متلاحمة.
هذه هي المجالات والعناصر التي وفرت الظروف الحالية الملائمة من أجل قيام العالم الإسلامي بتحرك متحد ومتلاحم. لا بد أن تفكر الحكومات المسلمة والنخب الدينية والعلمية والمثقفون المستقلون والشباب الباحثون عن الحقيقة أكثر من الجميع في الاستفادة من هذه المجالات المؤاتية.
من الطبيعي أن تقلق القوى الاستكبارية وعلى رأسها أمريكا أكثر من مثل هذا التوجه في العالم الإسلامي، وتسخر كل إمكاناتها من أجل التصدي لها... وهذه هي الحال اليوم. بدءاً من الامبراطورية الإعلامية وأساليب الحرب الناعمة، مروراً بإشعال الحروب والحروب بالنيابة، وصولاً إلى إلقاء الوساوس والنميمة السياسية، وانتهاء بالتهديد والتطميع والرشوة... كلها وجميعها تستخدم من قبل أمريكا وسائر المستكبرين كي تفصل العالم الإسلامي عن مسار صحوته وسعادته. إن الكيان الصهيوني المجرم والمخزي هو أيضاً من أدوات هذا المسعى الشامل في هذه المنطقة.
لقد باءت هذه المساعي بالفشل في أغلب الحالات بفضل الله وإرادته، وإن الغرب المستكبر صار أضعف يوما بعد يوم في منطقتنا الحساسة، وفي كل العالم أخيراً. ويمكن مشاهدة اضطراب أمريكا وحليفها المجرم أي الكيان الغاصب وفشلهما في المنطقة بوضوح ضمن مشهد الأحداث في فلسطين ولبنان وسوريا والعراق واليمن وأفغانستان.
وفي المقابل، إن العالم الإسلامي مليء بالشباب المفعمين بالدوافع والنشاط. وإن أعظم ذخر من أجل بناء المستقبل هو الثقة بالنفس والأمل اللذان يلوحان اليوم في العالم الإسلامي، وخاصة في بلدان هذه المنطقة... ونتحمل جميعا مسؤولية الحفاظ على هذا الذخر ومضاعفته.
مع كل هذا، لا ينبغي الغفلة للحظة واحدة عن كيد العدو. فلنجتنب الغفلة والغرور، ونضاعف سعينا ويقظتنا.. ولنطلب العون من الله القادر والحكيم في الأحوال كلها بالتضرع والإنابة. إن المشاركة في مراسم الحج ومناسكه فرصة عظيمة للتوكل والتضرع، وكذلك التفكر والعزم.
فلتتوجهوا إلى الله بالدعاء لإخوتكم وأخواتكم المسلمين في أنحاء العالم، ولتطلبوا لهم النصر والتوفيق من الله. ولتضمّنوا أدعيتكم الزاكية طلب الهداية والعون الإلهي لأخيكم هذا.
سيد علي الخامنئي
5 ذي الحجة 1443
5 تموز/يوليو 2022