فالحجّ عبادة متعدِّدة الدروس والأبعاد، تنفتح بعقل الإنسان ومداركه على كلّ خير وعدل ورحمة وموقف حقّ، وعلى كلّ ما يبني الروح الجماعة المتضامنة التي تحسّ ببعضها البعض، وتعمل على تأكيد التكافل بينها كأُمّة متوحِّدة بالله مستفيدة من كلّ طاقاتها.
ولهذه العبادة آثارها الروحية والمعنوية والأخلاقية الكبيرة في حياة الفرد والجماعة. قال أمير المؤمنين عليّ (ع): «والحجّ تقوية للدِّين»، عندما يعيش الفرد والجماعة روح التسامح والوحدة والانفتاح والتواصل.
وفي الحديث عن الإمام الرضا (ع) قال: «إنّما أُمِروا بالحجّ لِعِلَّةِ الوِفادة إلى الله عزوجل»، إلى أن قال: «وَحَظْرِ النفس عن اللَّذّات».
وفي رواية طويلة معروفة برواية الشبلي، يشير الإمام السجاد (ع) إلى الآداب المعنوية للحجّ.
قال الإمام السجاد (ع) لأحد أصحابه الشبلي: «حجّجت يا شبلي؟»، قال: نعم، يابن رسول الله. فقال (ع): «أَنَزلْتَ الميقات وتجرّدت عن مخيط الثياب واغتسلت؟». قال: نعم. قال (ع): «فحين نزلت الميقات، نويت أنّك خلعت ثوب المعصية، ولبست ثوب الطاعة؟»، قال: لا. قال (ع): «فحين تجرّدت عن مخيط ثيابك، نويت أنّك تجرّدت من الرياء والنفاق والدخول في الشبهات؟»، قال: لا.
قال (ع): «فحين اغتسلت، نويت أنّك اغتسلت من الخطايا والذنوب؟»، قال: لا. قال (ع): «فما نزلت الميقات، ولا تجرّدت عن مخيط الثياب، ولا اغتسلت!».
قال الإمام السجاد (ع): «تنظّفت وأحرمت وعقدت بالحجّ؟». قال: نعم. قال (عليه السلام): «فحين تنظّفت وأحرمت وعقدت الحجّ، نويت أنّك تنظّفت بنور التوبة الخالصة لله تعالى؟»، قال: لا. قال (ع): «فحين أحرمت، نويت أنّك حرّمت على نفسك كلّ محرّم حرّمه الله عزّوجلّ؟»، قال: لا. قال (ع): «فحين عقدت الحجّ، نويت أنّك قد حللت كلّ عقد لغير الله؟»، قال: لا. قال (ع) له: «ما تنظّفت ولا أحرمت ولا عقدت الحجّ!».
قال الإمام السجاد (ع) للشبلي: «أدخلت الميقات وصلّيت ركعتي الإحرام ولبّيت؟»، قال: نعم. قال (ع): «فحين دخلت الميقات، نويت أنّك بنيّة الزيارة؟»، قال: لا. قال (ع): «فحين لبّيت، نويت أنّك نطقت لله سبحانه بكلّ طاعة، وصمتَ عن كلّ معصية؟»، قال: لا. قال (ع) له: «ما دخلت الميقات... ولا لبّيت!».
ممّا قاله أيضاً الإمام السجاد (ع) للشبلي: «طفت بالبيت ومسست الأركان وسعيت؟»، قال: نعم. قال (ع): «فحين سعيت، نويت أنّك هربت إلى الله، وعرف منك ذلك علّام الغيوب؟»، قال: لا. قال (ع): «فما طفت بالبيت ولا مسست الأركان ولا سعيت!». قال (ع) له: «أسعيت بين الصفا والمروة، ومشيت وتردّدت بينهما؟»، قال: نعم. قال (ع) له: «نويت أنّك بين الرجاء والخوف؟»، قال: لا. قال (ع): «فما سعيت ولا مشيت، ولا تردَّدت بين الصفا والمروة!».
وقال الإمام السجاد (ع) للشبلي: «هل عرفت بموقفك بعرفة معرفة الله سبحانه أمر المعارف والعلوم، وعرفت قبض الله على صحيفتك واطّلاعه على سريرتك وقلبك؟»، قال: لا. قال (ع): «فما وقفت بعرفة!».
وممّا قاله (ع) للشبلي أيضاً: «فنويت عندما وصلت منى ورميت الجمار أنّك بلغت إلى مطلبك، وقد قضى ربّك لك كلّ حاجتك؟» قال: لا. قال (ع): «فعندما رميت الجمار، نويت أنّك رميت عدوّك إبليس وغضبته بتمام حجّك النفيس؟»، قال: لا. قال (ع): «فعندما حلقت رأسك، نويت أنّك تطهّرت من الأدناس ومن تبعة بني آدم، وخرجت من الذنوب كما ولدتك أُمّك؟»، قال: لا.
قال (ع): «فعندما ذبحت هديك، نويت أنّك ذبحت حنجرة الطمع بما تمسّكت به من حقيقة الورع، وأنّك اتّبعت سنّة إبراهيم (ع) بذبح وُلده وثمرة فؤاده وريحان قلبه، وأحييت سنّته لمن بعده، وقربه إلى الله تعالى لمن خلقه؟»، قال: لا.
قال له الإمام زين العابدين (ع): «فما وصلت منى، ولا رميت الجمار، ولا حلقت رأسك، ولا أدّيت نسكك... ولا تقرّبت، ارجع فإنّك لم تحجّ!». فطفق الشبلي يبكي على ما فرّطه في حجّه، ومازال يتعلّم حتى حجّ من قابل بمعرفة ويقين.
نتعلّم من فحوى ما ورد عن الإمام السجاد (ع)، ونحن في زمن الحجّ إلى الله، أن نفد عليه ونحن مطهَّرون من كلّ ما اكتسبناه من آثام، وأن نعقد العزم على عدم العودة إلى ارتكاب المعاصي عبر التوبة الخالصة النصوح، وأن نلبس ثوب الطاعة الحقيقية لله في السرّ والعلن، فنبتعد حقيقةً عن الرياء والعصبية والنفاق، ونبتعد عن الشبهات في مواقفنا وعيشنا وعقيدتنا، وأن نعاهد الله على التزام ما أمر والانتهاء عمّا نهى، وأن نهاجر إلى الله ونهرب إليه من كلّ ما يلوّث نفوسنا ويسقط عزّتنا، وأن نرجو دوماً رحمة الله، فنسعى إليها بأفعالنا وأقوالنا، وأن نخاف الله، فنراقب أنفُسنا ونحاسبها، وأن نعي حقيقة وقوف الله على كتاب أعمالنا في السرّ والعلانية.
نتعلّم أيضاً التطهّر من الذنوب، ورجم كلّ تصرف شيطاني يمكن أن يصدر عنّا، وأن نرمي أعداء الله بكلّ ما نستطيعه من قوّة، ونتمسّك بالورع والتقوى وهجران الذنب والأطماع والأهواء، عندها قد نحقّق بعضاً من معنويات عبادة الحجّ التي تعدّ من أهمّ العبادات في الإسلام.
هذه من جملة وصايا الإمام زين العابدين (ع)، حيث يدعونا أئمّتنا كي نتربى على القيم والمفاهيم العبادية السليمة التي تفتح قلوبنا وعقولنا على الخير كلّه، والبركة كلّها، وعلى فضل الله ورضوانه في الدُّنيا والآخرة.
*محمّد عبدالله فضل الله