البث المباشر

دعوة لدراسة فلسفات الشرق القديم

الخميس 24 يناير 2019 - 19:26 بتوقيت طهران

الحلقة 58

اعزائنا المستمعين السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. كثير من مؤرخي الفكر ومؤلفي تاريخ الفلسفة في العالم يقعون في الخطأ حين يتجاهلون الحياة الفكرية في الشرق القديم وما تنطوي عليه من عمق واصالة وفهم للحياة.
وقد تعود الغربيون بسبب التعصب الذميم ان يقطعوا العالم الشرقي ويخرجوه من الاعتبار ولا يرون تاريخ الفلسفة الا حلقتين منفصلتين هما الفلسفة اليونانية والفلسفة الغربية منذ ما يسمى بعصر النهضة الى الوقت الحاضر، وهذا خلل منهجي في التفكير ساقهم الى اقتقاد حلقة الوصل بين الفكر اليوناني تاريخياً والفكر الحديث في اوربا اضافة الى تجاهل المعرفة التي بزغت في بيئات الشرق كأيران والعراق ومصر والهند والصين وما كان لها من اثر بين في بنية الفكر الغربي في تاريخه القديم.
ولا شك ان الغرب قد شهد قيام اقدم الحضارات العالمية وهي حضارات يمكن ان يقال انها نشأت في ظلال الدين سواء كان هذا الدين خالصاً ام مشوباً بشوائب لحقت به في ظروف شتى ولا ريب ان منطقة الشرق قد شهدت اقدم حركة النبوات الالهية منذ آدم (عليه السلام) الى نوح وابراهيم وموسى وعيسى حتى خاتم الانبياء (صلى الله عليه وآله) وعليهم اجمعين.
وكان لابد ان تترك تعاليمهم ومناهجهم آثارها المختلفة في الحياة الاعتقادية والاجتماعية والسياسية والتشريعية في الحضارات التي نهضت في هذه المنطقة الكبيرة.
ومن هنا عرف الشرق قضايا حضارية متقدمة في الازمنة القديمة ففي الشرق كان اول تأسيس للمجتمع والدولة وفيه بزغ الضمير الانساني وتم اصدار التشريعات والقوانين الاصلاحية وظهرت منظومة افكار متصلة بالالهة وبتنظيم الحوادث الكونية.
وظهرت شعائر التضحية بالقربان لتطهير الانسان من دنس الشياطين والارواح الشريرة، وفي الشرق قبل غيره تساءل الانسان عن طبيعة الخير والشر والعدل والظلم والقدر والحرية والخلود كل ذلك اعان على قيام فكرة ما بعد الطبيعة وظهرت وسائل عملية في حياة الناس قبل التنجيم والسحر والوزن والكيل ومسح الاراضي مما تطور الى جهود تجريبية منظمة في الفلك والطب والحساب والهندسة، يضاف الى هذا سبق بلاد ما بين النهرين كل الافكار العالمية الاخرى في الاعتقاد بالنظام الكوني واثره في النظرية الخاصة بالزمن ومظاهرها الفلكية والايمان بالقضاء والقدر بأعتباره قدراً كونياً ومصيراً بشرياً وكذلك ايمانهم بالسماء بأعتبارها سقف العالم واباه الذي ينفذ منه النور وتتساقط منه مع الامطار بذور الحياة التي تتلقاها الارض وما كان لهم من اعتقاد بارتباط هذا بالملك الاعلى ابن السماء وابي الشعب اي الملك الذي يجمع بين الملكية والكهانة في نفس الوقت.
وعرف الشرقيون ايضاً النظرية الخاصة بالخصب والتوالد الناشئة عن شعائر الفصول والمواسم الدورية والمتصلة بأعتقاد ديني بكبير الالهة كما بدأت بدايات نظرية الخلق في قصص التكوين السومرية وملحمة الخلق البابلية ونظرية الخير والشر والنظام والقوضى والسكون والحركة وما اليها.
ولو اطلقنا عزيزي المستمع كلمة الفلسفة بمعناها الاعم على اية حكمة او رؤية متسقة شاملة عن الانسان والعالم والمجتمع وقضايا المبدأ والمصير والوجود والقيم وقلق الموت وما بعد الموت لكان من الحق ان نقول ان الفلسفة كانت حاضرة في وعي الانسان منذ ان بدأ يعقل وجوده ويحدد علاقاته بالعالم وبالاخرين حتى لو كان تعبيره عن هذه القضايا تعبيراً شعرياً او تصويرياً قصصياً يعتمد على الخيال الاسطوري، ولا بأس من استخلاص الافكار المترابطة في هذه الحكمة القديمة وبلورتها في تسق متكامل ولكن الخطأ ان يؤخذ على الحضارات الشرقية القديمة انها لم تصب في قالب المنطق اليوناني الغربي، انه من الممكن تلمس البذور المعرفية الشرقية التي كانت تمهيداً اثر تأثيراً في المنطق اليوناني وكأنما كان اشبه بتباشير الضوء المرتعشة التي سبقت الاشراقة العقلية اليونانية، ولا فير من البحث في علاقات التأثير والتأثر بشرط ان يستند هذ البحث الى قراءة الشواهد والاسانيد الاصيلة قراءة متأنية والمشكلة مع هذه البحوث انها تبذل جهداً كبيراً لاثبات اصالة الفكر الشرقي واستقلاله عن طريق مقاييس العقل القياسي اليوناني ومفاهيمة ومصطلحاته في اغلب الاحيان فتجعل التفكير في بلاد الشرق خاضعاً وتابعاً للمفاهيم الغربية وهذه تبعية ذميمة لا تستطيع ان تتخلص من فكرة النموذج الغربي وهي ترقع المنطق اليوناني الى مستوى المعيار والمقياس لانهم يرتدون الى جدل هجل المتحيز المتعالي في تفسيره للتاريخ والى افكار ليف بريل المشهورة عما قبل المنطق والعقلية البدائية.
اما الحياة‌ الدينية في الشرق القديم عزيزي المستمع وخصوصاً لدى البابليين فأنها غير واضحة للباحث الى الحد الكافي، ترى ما سبب عدم الوضوح هذا؟ هناك سببان فيما يبدو احدهما طبيعة الشواهد والبينات المتوفرة لدى الباحثين والاخرى هي مشكلة الفهم والتفسير التي تعترضها حواجز التصور القبلي، اما عن الامر الاول فأن شواهد الديانة في ارض ما بين النهرين هي شواهد اثرية ونصية في الوقت نفس وتتمثل هذه الشواهد الاثرية في حزائب المباني التي كانت ميداناً لممارسة الطقوس الدينية من مزارات ومعابد وزقورات معابد اي ابراجها وموضوعات متصلة بالعبادة كالصور واعمال التحت البارز او القليل البروز والاختام الاسطوانية والتماثيل وسواها.
صحيح ان علماء الآثار قد درسوا هذه الاثار من الوجهة الفنية وعرفوا اسماءها ووظائفها لكن مشكله المعنى الكامن وراء الوصف التفصيلي ما تزال مطروحة والاجابة‌ عنها ما تزال ملفعة بالصمت والغموض. واما عن قضية الفهم الذي يعيقه التفسير وقوالب التصور السابقة فأن السؤال هنا هو هل يمكن ان تلقي النصوص ضوءاً كافياً على هذه الظواهر المتنوعة الوجوة التي تسمى بالدين في بلاد الرافدين القديمة؟
وهل تحمل النصوص المدونة فهماً دقيقاً لمعنى الدين في عصر محدد او تحمل بياناً لمعانية المختلفة بأختلاف مراكز العبادة ‌وانواع الطقوس عبر تاريخ امتد اكثر من اربعة الاف سنة؟
وهل تستطيع هذه النصوص ان تكشف عن الحقيقة الباطنة للدين في قضية الموت والالم والمرض وخيبة الامل التي عانى منها الافراد او في كوارث الهزائم وتدمير المدن وتقلبات الطبيعة والاوئبة التي واجهتها الجماعات، ثم انه كيف تفاوتت الاستجابات الدينية لهذه المواقف بتفاوت الوضع التاريخي والاجتماعي والثقافي وكيف قرأ النص او كتب وفهم في كل ظرف محدد سواء كان هذا النص ضراعة ام كان رقية او تعويذة ام ترنيمة ام قصيدة.
ان نصوص ذلكم الوقت التي توصف بأنها دينية تنقسم الى ثلاثة اقسام، التراتيل والصلوات والحكايات الاسطورية والنصوص المتعلقة بالشعائر والطقوس وهذه كلها تشارك في تكوين التجربة الدينية هناك وفي تأدية الفعل الديني، فهل يمكن ان نستدل من نصوص الادعية والصلوات على افكار محددة عن علاقة الفرد بما يسميهم الهة وعن علاقته بنفسه وبالمجتمع والكون وعن واجباته الروحية والاخلاقية؟ وهل يمكن استخلاص تصور دقيق منها لقضية الموت والخلود والعالم الاخر؟
ان لغة النصوص الاكدية تكاد تجمع على تصوير الالهية بالجلال والرهبة، مع تأكيد النور الساطع الذي يشع منها ومن كل ما هو الهي وهذه النصوص تلح على طاعة التقي الورع الذي لم يقصر في اداء مناسكه وفي الوفاء بواجباته، اما نصوص حكايات اساطير الالهة المزعومة فهي تتناول ايضاً نشأة الكون وخلق الانسان واخبار الهبوط الى الارض، وهذه النصوص تمثل جزءاً اساساً من الابداع الادبي في حضارة الرافدين. ايها الاخوة الى حلقة اخرى من هذا البرنامج استودعكم الله والسلام عليكم.

*******

 

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة